الجمعة 19 أيلول , 2025 10:22

المليشيات المسلحة في غزة: أداة جديدة للاحتلال ومصدر تهديد مزدوج

منذ أشهر، تتكشف معالم سياسة جديدة يعتمدها جيش الاحتلال الإسرائيلي في قطاع غزة، قوامها تجنيد مليشيات محلية تعمل بتنسيق مباشر مع قواته على الأرض. خلالا الفترة الماضية كُشف جانباً من هذه الظاهرة، لكن ما يظهر اليوم أبعد من مجرد تعاون أمني عابر، إذ يعكس اتجاهاً منظماً لتحويل بعض العائلات والمجموعات المسلحة إلى وكلاء ميدانيين مقابل المال والامتيازات.

الخطوة تحمل أبعاداً عسكرية وأمنية، لكنها في جوهرها جزء من محاولة إعادة هندسة المشهد الداخلي في غزة بعد عام من الحرب، عبر خلق قوى محلية تدين بالولاء للاحتلال وتتنافس على النفوذ داخل مجتمع مأزوم. غير أن هذه المقاربة تنطوي على مفارقة خطيرة: فهي تمنح هذه المليشيات قدرة على حمل السلاح والسيطرة على موارد، من دون أن يمتلك الجيش نفسه السيطرة الكاملة عليها.

المليشيات الجديدة لا تقتصر مهامها على القتال أو توفير المعلومات، بل تنخرط أيضاً في اقتصاد الحرب. فقد مُنحت حق التحكم في مسارات المساعدات الإنسانية، واحتكار تصاريح استخدام الأراضي المؤقتة لنصب الخيام، وهو ما يدر عليها أرباحاً ويحولها إلى لاعب اقتصادي إلى جانب دورها الأمني. بذلك يجري خلق شبكات مصالح معقدة، حيث يصبح السلاح والتنسيق مع الاحتلال بوابة للثراء والنفوذ.

هذا البعد الاقتصادي يكشف أن الاحتلال لا يوظف هذه المجموعات فقط كأداة عسكرية، بل يسعى لتغذية طبقة من "أمراء الحرب" المحليين القادرين على فرض وقائع جديدة في المجتمع الغزّي، بما يضعف الروابط الوطنية ويشرذم الجبهة الداخلية.

المسؤول المباشر عن تشغيل هذه المليشيات هو جهاز الأمن الداخلي الإسرائيلي (الشاباك)، الذي يدير عمليات الاستقطاب ويمنح التراخيص لحمل السلاح. تقارير أمنية فلسطينية أكدت أن نقاط توزيع المساعدات الإنسانية تحولت إلى منصات لتجنيد متعاونين جدد، في عملية مزدوجة تستند إلى الإغراءات المادية من جهة، واستخدام أدوات الابتزاز مثل المخدرات من جهة أخرى لإسقاط الشباب وربطهم بمهام تجسسية.

هذا النمط يعيد إلى الأذهان تجربة الاحتلال في توظيف العملاء والمتعاونين تاريخياً، لكنه يأخذ اليوم شكلاً أكثر تنظيماً وعلانية، مع انتقاله من العمل الفردي السري إلى تشكيل مجموعات مسلحة قائمة بذاتها.

في المقابل، تدرك المقاومة الفلسطينية خطورة هذا المسار، وقد أعلنت في أكثر من مناسبة امتلاكها "قائمة سوداء" تضم أسماء تجار الحروب والعصابات المنظمة المرتبطة بالاحتلال، مؤكدة أنها ستخضعهم لمحاكمات تمهيداً للقصاص. خلال الأسابيع الماضية، اتهمت مصادر في المقاومة هذه العصابات بالمشاركة في عمليات اختطاف لمجاهدين، وجمع معلومات عن الأسرى والأنفاق.

هذه المواجهة المحتملة تضيف طبقة جديدة من التعقيد إلى مشهد غزة: صراع داخلي بين المقاومة وقوى محلية مسلحة مدعومة من الاحتلال، بما ينذر بمرحلة من الفوضى الأمنية، خصوصاً في مناطق الجنوب مثل خان يونس ورفح حيث يتركز نشاط هذه المليشيات.

من أبرز الأمثلة على هذه المجموعات عصابة يقودها ياسر أبو شباب، تنشط في رفح وتحظى بدعم لوجستي وتسليحي مباشر. وجود مثل هذه العصابة يوضح كيف يتغلغل الاحتلال عبر أدوات محلية، في محاولة لتقويض نفوذ المقاومة وخلق "بيئة صديقة" على الأرض.

لكن خطورة الظاهرة تكمن في أن هذه المليشيات قد تنقلب يوماً على الاحتلال نفسه. ضباط إسرائيليون اعترفوا بوجود خشية حقيقية من فقدان السيطرة، وهو ما يعكس طبيعة الأدوات التي يستحضرها الاحتلال: قوى مصلحية مؤقتة قد تتحول إلى مصدر تهديد متى تعارضت مصالحها مع مشغليها.

التقارير الإسرائيلية السابقة أشارت بوضوح إلى أن تسليح بعض هذه المجموعات جرى بموافقة مباشرة من رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو. وهذا يعني أن المسألة ليست مجرد ارتجال عسكري ميداني، بل خيار سياسي استراتيجي يهدف إلى إعادة صياغة معادلات القوة في القطاع.

إلا أن هذا الخيار يعكس مأزقاً أعمق: فبعد سنوات من الحصار والحروب، لم يستطع الاحتلال فرض استقرار أمني في غزة، فانتقل إلى الاعتماد على وكلاء محليين. غير أن مثل هذه الأدوات، وإن خدمت أهدافاً قصيرة المدى، تهدد على المدى البعيد بخلق كيانات مسلحة منفلتة، تعيد إنتاج الفوضى التي لطالما اشتكى منها الاحتلال في تجاربه بالضفة ولبنان.

توظيف المليشيات الفلسطينية في غزة ليس مجرد تفصيل ثانوي في إدارة الاحتلال للحرب المستمرة، بل مؤشر على انتقاله إلى مرحلة جديدة من سياسة "الحكم بالوكالة". هذه السياسة قد توفر مكاسب تكتيكية مؤقتة، لكنها تحمل بذور انفجار داخلي يصعب ضبطه. في النهاية، يظل الرهان على تفكيك النسيج الاجتماعي الغزّي عبر المال والسلاح محفوفاً بالمخاطر، وقد يتحول إلى عبء على الاحتلال أكثر مما هو أداة للسيطرة.


الكاتب: غرفة التحرير




روزنامة المحور