الجمعة 19 أيلول , 2025 10:32

نتنياهو ومأزق الهروب إلى الأمام

مع دخول الحرب على غزة مراحلها الأكثر تعقيداً، تتكشف صورة مغايرة للخطاب الرسمي الذي يقدّمها الاحتلال باعتبارها معركة وجودية له. فبالنسبة إلى رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، لم تعد القضية مقتصرة على حسابات عسكرية أو أمنية، بل تحولت إلى مسألة بقاء شخصي وسياسي يرتبط باستمرار الحرب لا بإنهائها.

أي توقف للمعارك سيطلق سلسلة استحقاقات صعبة لنتنياهو. أولها تهديد استقرار ائتلافه الهش، إذ يلوّح الوزراء اليمينيون برفض أي تسوية لا تحقق ما يسمونه "النصر الكامل". ثانيها تشكيل لجنة تحقيق رسمية حول "كارثة" السابع من تشرين الأول/أكتوبر عام 2023، وهي أكبر هزيمة أمنية في تاريخ إسرائيل، بما يعنيه ذلك من تحميل المسؤوليات السياسية والعسكرية. وثالثها إعداد تقرير شامل عن أداء الحكومة خلال الحرب، وهو ما قد يسقط آخر خطوط الحماية التي منحتها له حالة الطوارئ أمام ملاحقاته القضائية.

يدرك نتنياهو أن وصف الواقع بالخطر الوجودي يوفر له غطاء سياسياً ويعفيه مؤقتاً من المساءلة. فحالة الحرب المستمرة تسمح له بتوظيف قدراته التكتيكية: إدارة التناقضات داخل الائتلاف، وتقديم نفسه كقائد لا بديل عنه، وتأجيل لحظة المواجهة مع القضاء. في هذا السياق، يصبح استمرار القتال خياراً سياسياً بقدر ما هو عسكري.

لكن حسابات البقاء هذه تصطدم مباشرة بملف الأسرى المحتجزين في غزة. عائلاتهم تشعر أن مصير أبنائها جرى تهميشه مقابل مصالح نتنياهو. تصريح والدة أحد الرهائن بأن ابنها "ضحّي به على مذبح نتنياهو" يلخص المفارقة: "الدولة"، كما يرسمها رئيس وزرائها، لها الأولوية على حياة مواطنيها. هذا الشرخ بين السلطة والمجتمع يفتح جبهة داخلية موازية لا تقل خطورة عن جبهات القتال.

على الصعيد الداخلي، يحظى نتنياهو بدعم صريح من شركائه في أقصى اليمين. وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير، مثلاً،عبّر بوضوح عن رغبته في تحويل غزة إلى ساحة إبادة، مستخدماً لغة ورموزاً لا تخفى دلالتها. هذا الخطاب يمنح نتنياهو غطاءً لمواصلة الحرب، لكنه في المقابل يعمّق أزمة إسرائيل الدولية ويزيد من حدة الانقسام الداخلي.

في الخارج، تبقى الولايات المتحدة هي الركيزة الأهم. ورغم الطابع المتقلب لتصريحات الرئيس الأميركي دونالد ترامب، فإنها لا تخرج عن إطار الدعم الثابت لكيان الاحتلال. هذا يمنح نتنياهو مساحة واسعة للمناورة، إذ يدرك أن واشنطن لن تفرض عليه حتى الآن خطوطاً حمراء حقيقية، ما دام يقدم الحرب باعتبارها معركة ضد "الإرهاب" وضماناً للأمن الإقليمي على حد تعبيره.

من جهة أخرىن فإن ما يسعى إليه نتنياهو يتجاوز مجرد الصمود في وجه التحقيقات أو الحفاظ على منصبه، إنه يطمح إلى صياغة إرث سياسي يقدّمه بوصفه القائد الذي أعاد لإسرائيل هيبتها بعد نكسة تشرين الأول. لكنه في المقابل يترك وراءه سجلاً من الأزمات: دماء الفلسطينيين التي تُسفك يومياً، الشرخ العميق في الشارع الإسرائيلي، والتصدعات داخل مؤسسات الدولة.

تبدو الحرب بالنسبة إلى نتنياهو وسيلة للهروب إلى الأمام أكثر مما هي استراتيجية للخروج من المأزق. فكل يوم إضافي من القتال يمنحه فرصة لتأجيل الاستحقاقات، لكنه في الوقت نفسه يفاقم التصدعات التي تهدد كيانه السياسي على المدى البعيد. وفي النهاية، قد يكتشف أن محاولة بناء إرث "المنتصر" لا تعفيه من المساءلة، بل تجعلها أكثر شدة حين تأتي


الكاتب: غرفة التحرير




روزنامة المحور