منذ عقود، بنت "إسرائيل" سرديتها الكبرى على معادلة "التفوق المطلق": تفوق عسكري لا يُضاهى، حماية أميركية غير مشروطة، وبيئة عربية مفككة تحكمها أنظمة مأزومة. هذه المعادلة مكّنتها من شنّ الحروب متى شاءت، وتوسيع الاستيطان كيفما أرادت، واستباحة العواصم العربية في بيروت ودمشق وغزة وبغداد… والآن الدوحة. لكن الهجوم الأخير على قطر — بصفته محطة مفصلية — يكشف أن عصر "العلو الإسرائيلي" الذي تغذّى على وهم "التفوق الاستراتيجي" يقترب من نهايته، في حين يتحول الضعف العربي المزمن من أزمة سياسية إلى معضلة حضارية شاملة.
ماذا كسبت "إسرائيل" من هذه العملية؟
"الإسرائيليون" يحبون أن يتحدثوا بلغة الربح والخسارة، وكأن السياسة ليست سوى حساب بنكي. ولكن إذا وُضعت عملية الدوحة في هذا الميزان، فالحصيلة صفرية بل وسالبة. لو نجحت تل أبيب في اغتيال قادة حماس، كان يمكنها أن تتقبل الأثمان السياسية والدبلوماسية والأمنية التي ستدفعها. لكن فشل العملية، مع ارتفاع التكاليف، جعل منها فضيحة استراتيجية. خسرت "إسرائيل" صورتها، خسرت أوراقها التفاوضية، وأحرقت ما تبقى من الثقة بها كوسيط أو طرف مقبول في أي عملية سياسية.
هذه الخسارة لا تتوقف عند حدود نتنياهو شخصياً — وإن كان الفشل يثقل رصيده المتداعي أصلاً بعد مقتل أحد عشر "إسرائيلياً" قبل أيام — بل تمتد إلى صورة الدولة نفسها. "إسرائيل" باتت تُرى كما هي: دولة مارقة تستخدم القوة العمياء لفرض الأمر الواقع، ثم تفشل حتى في ذلك.
الاستباحة كنهج إمبريالي
لا ينبغي النظر إلى قصف الدوحة باعتباره فقط مغامرة "إسرائيلية". إنه امتداد لبنية إمبريالية أوسع. تاريخيًا، الولايات المتحدة شرعنت استباحة بغداد وصنعاء وبيروت ودمشق. "إسرائيل" تتحرك في هذا الفضاء نفسه، لكنها تفعل ذلك بمباشرة فجة. الاستثناء لم يعد استثناء: عاصمة عربية جديدة تُستباح، في ظل صمت رسمي عربي يكتفي بالإدانات اللفظية.
في هذا السياق، "إسرائيل" ليست سوى أداة. لكنها أداة تحولت مع الزمن إلى لاعب مستقل يفرض أجندته حتى على الحليف الأميركي. فشل العملية في الدوحة فضح هذا التوتر: واشنطن سعت إلى النأي بنفسها عن الهجوم، بينما ظهر نتنياهو وكأنه يجرّ الجميع إلى هاوية الحرب.
مفاوضات محترقة وخيار عسكري وحيد
كان لدى "إسرائيل" رهان على أن حماس بدأت تُبدي بعض الليونة، وأن المفاوضات في الدوحة قد تفتح ثغرة لفرض شروطها أو على الأقل جرّها إلى مساومات طويلة الأمد. لكن الهجوم نسف هذه الفرضية بالكامل. حماس اليوم أكثر عناداً، والوساطة القطرية والمصرية فقدت أرضيتها المحايدة. أي حديث عن "ثقة متبادلة" بات وهماً.
النتيجة: إغلاق الباب أمام أي مسار دبلوماسي، وترك الجيش الاحتلال أمام خيار واحد هو الخيار العسكري الشامل في غزة. لكن الخيار العسكري لم يعد مكسباً مضموناً، بل مغامرة وجودية قد تنقلب كارثة على الداخل "الإسرائيلي" نفسه. هنا يظهر مأزق المؤسسة الأمنية: فهي التي دفعت باتجاه "ضربة حاسمة" قبل الانخراط في معركة برية واسعة، لكنها خرجت خالية الوفاض.
ترامب يمنح الأمان… ويعلن النهاية
الأكثر خطورة أن الرئيس الأميركي دونالد ترامب، في تعليقاته اللاحقة، منح نوعاً من "الأمان" لقيادة حماس في الدوحة، معلناً أن هذه الفرصة لن تتكرر. الترجمة الإسرائيلية لهذا الكلام أن اللحظة الذهبية لاغتيال قيادة الحركة قد ضاعت. لم يعد أمام تل أبيب سوى التورط أكثر في الحرب المفتوحة، من دون الغطاء السياسي الذي كانت تأمله.
بهذا المعنى، "إسرائيل" لم تقتل قادة حماس، بل قتلت المفاوضات. لم تحصد انتصاراً عسكرياً، بل راكمت هزيمة سياسية.
من إهانة قطر إلى إهانة الأمة
لكن الخسارة "الإسرائيلية" لا تُقاس فقط بميزان الربح والخسارة الضيق. استهداف الدوحة لم يكن مجرد عدوان على قطر، بل إهانة مباشرة للكرامة العربية. ومع ذلك، هنا يظهر البعد الأخطر: العجز العربي لم يعد حالة عابرة أو أزمة أنظمة، بل صار جزءاً من المشهد الحضاري العام.
العواصم العربية تُستباح الواحدة تلو الأخرى. بيروت قُصفت مراراً، دمشق دُمّرت، بغداد انتهكت، غزة تُحاصر وتُذبح يومياً، والآن الدوحة. الرد العربي في كل مرة لم يتجاوز بيانات التنديد والاستعراضات الخطابية. وكأن الأمة، بكل تاريخها وثرواتها وقواها الشعبية، رضيت بأن تتحول إلى "أمة جغرافية" بلا فاعلية سياسية أو استراتيجية.
عصر "العلو الإسرائيلي"… وعصر "الوهن العربي"
قد يقول البعض إننا نعيش في "عصر العلو الإسرائيلي"، وهذا صحيح بمعايير القوة المادية التي ما زالت في يد تل أبيب. لكن الأصح أن نسميه "عصر الوهن العربي". فلو لم يكن هناك انهيار داخلي في البنية السياسية العربية، لما كان "لإسرائيل" أن تذهب بعيداً في عدوانها. ضعفنا هو الذي منحها هذا "العلو"، لا قوة ذاتية خارقة.
المعضلة ليست فقط في غياب الردع العربي، بل في غياب الإرادة أصلاً. الأنظمة اختارت العجز، والشعوب رغم قوتها وحضورها التاريخي، مكبّلة إما بالاستبداد أو بالفوضى أو باليأس. النتيجة أن إسرائيل لا ترى أمامها خصماً استراتيجياً بل فراغاً حضارياً.
"الوهن العربي" هنا ليس ضعفًا عسكريًا فقط، بل انهيارًا في مفهوم السيادة العربية ذاته. العالم العربي تحوّل إلى جغرافيا بلا سيادة، إلى خرائط مفتوحة أمام القوة "الإسرائيلية". الشعوب موجودة، لكنها مُكبّلة. الأنظمة تكتفي بإدانات لفظية، بينما تعجز عن إنتاج موقف موحد يحقق الحد الأدنى من الردع. النتيجة: استباحة متكررة تصبح نهجًا طبيعيًا.
إلى أين نحن ذاهبون؟
السؤال المركزي اليوم: ما مآلات الأمور؟ استمرار هذا النهج "الإسرائيلي" يعني مزيداً من التصعيد، وربما توسعاً نحو تهديدات لتركيا أو غيرها من القوى الإقليمية. في المقابل، أي رد عربي حقيقي لا يزال بعيداً، إلا إذا تحولت القمة العربية الإسلامية الطارئة في الدوحة إلى ما هو أبعد من منصة بيانات، إلى لحظة تأسيسية لمسار ردع جماعي.
لكن التجارب السابقة لا تبشر بذلك. نحن أمام مفترق طرق: إما أن تستعيد الأمة العربية الحد الأدنى من كرامتها وقوتها، أو تواصل انحدارها إلى ما بعد "الضعف السياسي" نحو "المعضلة الحضارية"، حيث يُصبح الوجود العربي محصوراً في حدود جغرافية بلا أثر أو وزن.
نهاية العلو أم بداية الانهيار؟
العملية الفاشلة في الدوحة قد تكون بداية النهاية لعصر "العلو الإسرائيلي"، لأنها كشفت هشاشة القوة حين تتحول إلى غطرسة عمياء. لكنها في الوقت نفسه تضع العرب أمام مرآة مؤلمة: ضعفهم لم يعد شأناً داخلياً، بل صار أزمة حضارية تهدد معنى الأمة نفسها.
هنا تكمن المفارقة الكبرى: "إسرائيل" تخسر أوراقها الاستراتيجية، لكن العرب يخسرون معنى وجودهم كقوة فاعلة. السؤال لم يعد: متى تنكسر "إسرائيل"؟ بل: هل ينهض العرب من وهنهم قبل أن تتحول الخسارة إلى انهيار حضاري شامل؟
الكاتب: د. محمد الأيوبي