أحداث عام 2024، ولا سيما اغتيال عدد من قياديّ حزب الله، شكّلت نقطة تحوّل مفصلية أسقطت كل قواعد الاشتباك السابقة ودفعت الصراع نحو مرحلة جديدة من "حرب الظلال". هذه المرحلة تتميز بكونها أكثر شراسة، وأشدّ اعتمادًا على التكنولوجيا، وأقل قابلية للتنبؤ. كما وصفها أحد المصادر الاستخباراتية الصهيونية، "لقد دخلنا لعبة مختلفة تمامًا"، حيث لم تعد هناك خطوط حمراء تضبط المعركة.
مستقبل حرب العقول الرقمية والذكاء الاصطناعي
سيكون مستقبل الحرب بين المقاومة والكيان الإسرائيلي ساحة صراع بين الخوارزميات أكثر منه بين الجيوش. "إسرائيل" ستكثف استخدام الذكاء الاصطناعي ومنصات تحليل البيانات الضخمة مثل GOSPEL وLAVENDAR، ليس فقط لرصد الأهداف العسكرية، بل لرسم خرائط شاملة لنقاط ضعف المقاومة: من شبكاتها الاجتماعية والمالية إلى منظوماتها اللوجستية. في المقابل، ستسعى المقاومة إلى تفكيك هذا التفوق عبر توظيف أدوات الذكاء الاصطناعي المتاحة تجاريًا، وتطويعها لأغراض دفاعية وهجومية، واستغلال هشاشة الاعتماد المفرط للعدو على هذه الأنظمة.
سباق التسلح التكنولوجي المضاد
ستعتمد المقاومة إستراتيجية مزدوجة: تطوير قدراتها السيبرانية الهجومية والدفاعية من جهة، وتعزيز وسائل الحماية التقليدية من جهة أخرى. ستعود إلى السرّية، تقليص الاتصالات الإلكترونية، الاعتماد على السعاة والتواصل المباشر، لتتحول إلى "شبح رقمي" يصعب على العدو تعقبه. وهنا يضطر الكيان مجددًا إلى تفعيل الاستخبارات البشرية، وهو المجال الذي عجز مرارًا عن التفوق فيه أمام قدرة المقاومة على كشفه وتفكيكه.
استراتيجية العدو: الهيمنة الوقائية والحرب الدائمة
الكيان الإسرائيلي سيواصل تكريس عقيدته الهجومية لكن بنسخة أكثر جرأة واستباقية:
- الضربة الأولى: استهداف أي قدرة ناشئة لدى المقاومة قبل أن تكتمل، لتصبح الضربات الوقائية والاغتيالات قاعدة راسخة.
- توسيع بنك الأهداف: لن تبقى المواجهة عسكرية صِرفة، بل ستشمل كل ما يرتبط بـ"مساحة سطح" حزب الله: من البنى الاجتماعية والمالية، إلى المؤسسات المدنية في البيئة الحاضنة، بذريعة استخدامها لدعم المقاومة.
- الحرب النفسية الرقمية: استثمار أوسع في عمليات التأثير عبر وسائل التواصل الاجتماعي لبث الشكوك بين صفوف المقاومة، وتشويه صورتها أمام جمهورها، ومحاولة فصلها عن بيئتها.
حرب هجينة مفتوحة
المستقبل القريب يرسم صورة صراع أكثر تعقيدًا من أي وقت مضى. ستكون الحرب هجينة تجمع بين الطائرات المسيّرة والهجمات السيبرانية، وبين الاغتيالات والعمليات النفسية، وبين الاستخبارات البشرية وخوارزميات الذكاء الاصطناعي. رهان العدو أن تفوقه التكنولوجي سيفضي إلى إنهاك المقاومة وتآكلها. في المقابل، رهان المقاومة أن مرونتها التنظيمية، وعمقها الشعبي والعقائدي، وقدرتها على التكيف، ستمنحها القدرة على امتصاص الضربات وإعادة البناء والمبادرة.
لكن الحسم لن يكون للتكنولوجيا وحدها. بل سيتوقف على الإرادة والقدرة على الصمود والابتكار. تاريخ هذا الصراع يثبت أن إرادة المقاومة كانت دائمًا المفاجأة التي تحبط مخططات العدو، وأنها القوة التي غيّرت وجه المنطقة، من مجرد حركة مطاردة إلى لاعب استخباراتي رئيسي تحدّى كيانًا نوويًا مدججًا بأحدث التقنيات.
المقاومة: من الدفاع إلى الردع
المقاومة لم تكتفِ بالبقاء، بل حوّلت الضربات إلى فرص للتطور. منذ اغتيال السيد عباس الموسوي وقرار الانتقال من الدفاع إلى الهجوم الأمني، كان الهدف بناء "إرادة رادعة" تفرض على العدو حسابات جديدة. كل إنجاز أمني ــ من اختراق العمق الاستخباراتي الصهيوني إلى تطوير شبكة اتصالات محصّنة ــ صبّ في هذا المسار. وحتى الضربات القاسية لعام 2024 لم تكسرها، بل أكسبتها صلابة أكبر وأظهرت قدرتها المذهلة على التعافي والمبادرة.
في المقابل، إنجازات العدو بدت مجرد ردود فعل تكتيكية بلا أفق استراتيجي. اغتيالات وعمليات غادرة تكشف إفلاسًا في الرؤية، كما في عملية "البيجر" التي استهدفت الأفراد لا القدرات، وعبّرت عن عجز أكثر مما عكست قوة.
سيبقى المستقبل محكومًا بمعادلة غير متكافئة: عدو يراهن على التفوق التكنولوجي وغطرسة القوة، ومقاومة تراهن على الإيمان والمرونة والقدرة على تحويل الهزائم الجزئية إلى انتصارات استراتيجية. أربعون عامًا من حرب الظلال أثبتت أن المقاومة ليست فقط قادرة على الصمود، بل على فرض نفسها كابوسًا أمنيًا واستخباراتيًا للكيان. القوة الحقيقية لم تكن يومًا في عدد الطائرات المسيّرة أو الخوارزميات، بل في صلابة الإرادة وعمق الانتماء وقدرة العقول الحرة على الإبداع وسط النار.
الكاتب: غرفة التحرير