في مثل هذا اليوم من العام الماضي، ظهر الشهيد السيد حسن نصر الله ليخاطب الأمة في آخر خطاب له قبل أسبوع من استشهاده في 27 أيلول/سبتمبر 2024. وكما في كل خطاب جمع السيد نصر الله بين كل أساليب الخطابة متنقلاً بين الحزم والحكمة والرحمة، حريصاً على مصلحة لبنان والمقاومة وكل القضايا المحقة التي أخذت حيزاً واسعاً من عمله. ولطالما اعتبر الصديق والعدو أن خطاب السيد نصر الله يقدم قراءة شاملة للأحداث وفيه رؤية سياسية لا بد من الاطلاع عليها لأنها مهمة في فهم المرحلة والتوجه، حيث كان السيد يحرص على أن يرسم خارطة طريق في كل خطاب يفهم من خلالها الجمهور الأحداث التي تجري وإلى أين ستذهب الأمور. كان السيد نصر الله يزن كل كلمة، ويفكر بكل احتمال، ويخاطب الكيان والدول والمواطنين اللبنانيين والبيئة الحاضنة في آن واحد بأسلوب سهل ممتنع ينتظر سماعه الجميع.
مسؤولية القيادة والحماية
في خطابه الأخير عقب جريمة تفجير أجهزة البيجر، أولى السيد نصر الله أهمية خاصة لشمال فلسطين المحتلة، حيث كانت تتركز عمليات المقاومة الإسلامية خلال معركة إسناد غزة. وطوال هذه الفترة، كان هدف منع إعادة المستوطنين إلى شمال فلسطين المحتلة أحد أهداف حزب الله الأساسية، إذ اعتبر أن معاناة الحرب لن يتحملها أهالي الجنوب وحدهم كما كان في السابق، بل كما نزح أهل القرى الحدودية عن منازلهم، فإنه يجب أن يخلوا المستوطنات. وهذا ما ركز عليه السيد في خطابه الأخير. وبالفعل، تعرضت المستوطنات الشمالية خلال معركة أولي البأس لضربات كثيرة، ما أسفر عن خسائر هائلة في المنازل والبنى التحتية وجعل قسمًا كبيرًا منها غير صالح للسكن. من بين سطور خطاب السيد نصر الله، يظهر أيضًا شعوره الواضح بالمسؤولية، إذ يدرك أن حياة المدنيين مرتبطة بخياراته وتقديراته، وهذه إحدى صفات القيادة الناجحة التي تتحمل هم الناس ومعاناتهم، ولا تتجاهلها، بل تقدم كل ما تملك في سبيل حمايتها. فقد تكفل السيد، طيلة مسيرته الممتدة على 30 عامًا، بالدفاع عن لبنان ككل وليس فئة أو طائفة معينة، وما كان يجدر بالدولة اللبنانية فعله، تحمله السيد بكافة أعبائه وحده. وظهر بوضوح بعد شهادته أن له دورًا كبيرًا في صناعة وزن للبنان أمام العالم، والحفاظ على سيادته واستقراره ووحدته في مواجهة الفتن، التي صدها مرارًا ومنع وقوعها.
ما يميز كل خطابات السيد نصر الله لا سيما الأخير هو المزيج الفريد بين الحزم في مواجهة التهديدات، والطمأنينة التي حاول تقديمها دائماً للبيئة الحاضنة. وعلى الرغم من التهديدات الإسرائيلية التي كانت تواجه لبنان حينها، حافظ على هدوئه ووضوحه، مؤكداً أن المقاومة ستقف صلبة أمام أي تصعيد. ما عكس محاولته في تحويل الألم والصدمة إلى قوة معنوية لبيئة المقاومة التي أراد لها دائماً أن تتحلى بالقوة والعزيمة والإيمان ببلوغ النصر. مع الإصرار على أن الإرادة الوطنية لن تنكسر مهما بلغ حجم العدوان.
الداخل والخارج والمقاومة
وجه السيد نصر الله خطابه الأخير لكل الأطراف، وأفهم العدو أن كل الممارسات التي يقوم بها لن تكون طريقاً لنجاته، بل فخاً وانزلاقاً نحو الفشل. وحث الشعب اللبناني على التماسك الوطني، والوعي بأن قوة لبنان تكمن في تلاحم كل الشارع اللبناني والمقاومة، وأن دماء الشهداء ومواقف الثبات هي رأس الحربة ضد محاولات الاختراق. وأما للمقاومين على الجبهات ولكل من ضحى لأجل حرية وطنه فوجه رسالة دعم معنوي، فيها تثبيت للقيم والاستمرار في طريق الصمود، مع التأكيد أن كل مجهود وكل تضحية لها مكانها ووزنها في المعركة الشاملة.
استحضار الإرث
بلا شك ستظل خطابات السيد نصر الله حاضرة دائماً في كل المحطات لتلهم المقاومين والبيئة الحاضنة، بالنسبة لمحبيه لم يكن السيد مجرد فرد بل هو منهاج يقتدى به. وأثبت حزب الله في الحرب الأخيرة التي خاضها أن السيد نصر الله متجذر في خلفية كل مقاتل على الرغم من غيابه. لذا فالإرادة التي زرعها السيد نصر الله من الصعب أن تكسر وهذا ما اكتشفه الكيان بعد اغتياله حيث تابع حزب الله مسيرته وانتخب أميناً عاماً جديداً في خضم الحرب وواصل استهداف الأراضي المحتلة وأفشل العمليات البرية في جنوب لبنان وصمد أهله لمدة 66 يوماً في ظل حرب همجية استهدفت وجودهم وكل هذا بفضل الإرث الذي تركه السيد نصر الله واستحضره أبنائه في غيابه.
الكاتب: غرفة التحرير