السبت 01 تشرين ثاني , 2025 11:47

الترويج الاستخباراتي: كيف يصنع الغرب بطولات الموساد؟

العلم اللبناني والبيجر

في عامٍ يَلي تفجير أجهزة النداء في لبنان، يظهر أن الإعلام الغربي، وتحديدًا مجلة L’Express الفرنسية، خاض حملةً ممنهجة لتلميع صورة الموساد عبر تحقيقٍ طويلٍ يتناول ما وُصف بأنه "عملية استخباراتية دقيقة" ضد حزب الله. إلا أن هذا النوع من التغطيات لا يندرج في إطار الصحافة المحايدة بقدر ما يشكّل عملية ترويج استخباراتي تهدف إلى تثبيت سردية محددة وإعادة تعريف صورة الجهاز أمام الرأي العام الدولي.

فمنذ البداية، يتعامل التحقيق مع الأجهزة الأمنية كأنها مؤسسات مثالية تجمع بين الذكاء والجرأة والقدرة التقنية الخارقة، بينما يتجاهل الأبعاد القانونية والإنسانية لعملياتها. يُقدَّم تفجير أجهزة النداء في سبتمبر 2024، الذي خلّف أكثر من 2800 جريحًا وعشرات الشهداء، كعمل "عبقري" نفّذه جهاز محترف، لا كجريمة محتملة تستدعي المساءلة. وتُستخدم لغة مليئة بالإعجاب: كلمات مثل "مذهلون بقوتهم" أو "من أكثر العمليات تطورًا في التاريخ" تشحن السرد بانبهار يهدف إلى شرعنة العنف تحت غطاء الكفاءة التقنية.

تعتمد L’Express على مصادر مجهولة لإضفاء هالة استخباراتية على النص، ما يجعل من المستحيل التحقق من صحة الادعاءات. العبارات المتكررة مثل "وفقًا لمصادر مطلعة" أو "يقول مسؤول سابق" تحوّل القارئ إلى متلقٍّ لرواية جاهزة لا تستند إلى وثائق رسمية أو أدلة مادية. في المقابل، تُغفل المجلة تقارير صحافية دولية مثل رويترز ونيويورك تايمز، التي أكدت وجود ثغرات وتحفظات حول الرواية الإسرائيلية، لاسيما غياب الأدلة القضائية التي تثبت مسؤولية الموساد بصورة قاطعة.

ورغم أن التحقيق يعترف بعدد من الضحايا، إلا أن طريقة العرض تُحوِّلهم إلى هامش سردي لا يُغيّر من "بطولة" المنفذين. هنا يتحول النص إلى أداة ردعٍ ناعمة: فهو يبعث برسالة ضمنية إلى خصوم إسرائيل مفادها أن يد الموساد تطال الجميع، بينما يُقدّم هذا الردع كإنجاز أمني مشروع. والنتيجة هي تسويق الخوف باعتباره إنجازًا تقنيًا. بهذه الطريقة، تتبنّى الصحافة دورًا وظيفيًا يخدم جهاز الاستخبارات نفسه، من خلال تضخيم صورته لدى الداخل الإسرائيلي والرأي العام الغربي، وتبرير ميزانياته وأفعاله أمام المجتمع الدولي.

التحقيق يتعامل مع الجانب الفرنسي–الإسرائيلي كرمزٍ لـ"تحالفٍ استخباراتيٍ نبيل"، مبرزًا "التعاون المثمر" بين الموساد ووكالة DGSE الفرنسية في قضايا مثل غزة وإيران. غير أن هذا التعاون يُقدَّم في سياقٍ دعائي أكثر منه توثيقي، إذ يتم التغاضي عن التوترات السياسية والخروقات القانونية التي شابت العلاقة، مثل عمليات الاغتيال داخل فرنسا (قضية عاطف بسيسو 1992) أو استخدام جوازات سفر فرنسية في عمليات سرية. كذلك، يتم تجاهل النقاشات الأخلاقية المرتبطة بتبادل المعلومات عن المدنيين في غزة أو لبنان، ليبدو التعاون الفرنسي–الإسرائيلي كأنه تحالف إنساني ضد الإرهاب، لا كشبكة مصالح استخباراتية تُدار بمعايير مزدوجة.

ومن بين أكثر الأمثلة وضوحًا على “الترويج المبطّن”، الجزء المتعلق بـشركة BAC Consulting، التي زُعم أنها الواجهة التي استخدمها الموساد لتفخيخ أجهزة النداء. فبدل التركيز على البعد الإجرامي في العملية، يروي التحقيق القصة كحبكة بوليسية مثيرة عن امرأة غامضة – الفيزيائية الإيطالية المجرية كريستيانا بارسوني–أرسيدياكونو – مقدّماً إياها في إطارٍ سينمائي، لتتحول المأساة الإنسانية إلى دراما جواسيس جذابة. هذا الأسلوب يخلق حالة من التشويق تخدم الدعاية أكثر مما تخدم الحقيقة.

ومن زاوية تحليلية أعمق، يمكن القول إن هذا النمط من التغطيات يعكس استراتيجية إعلامية غربية أوسع، تُعيد تأطير الأحداث بحيث يظهر الموساد كرمزٍ للعقلانية والابتكار، في حين يُختزل الآخرون في صورة الفوضى والتطرف. يُسوَّق التفجير كـ"إنجاز استخباراتي" لا كفعل عدواني. وتغيب الإشارة إلى القوانين الدولية أو قواعد النزاعات المسلحة، ما يسمح بتطبيع العنف بوصفه ممارسةً أمنية متقدمة.

كذلك، يتجاهل التحقيق وجود دعوات أممية ودولية طالبت بتحقيق مستقل في تفجير "البيجر"، ويركّز بدلًا من ذلك على "كفاءة" الموساد وقدرته على الوصول إلى أهدافه. إن هذا التركيز على "النتائج" دون مساءلة الوسائل يخلق نموذجًا خطيرًا يُبرّر استخدام أي وسيلة باسم الأمن، ويُشرعن خرق السيادة وتهديد المدنيين.

أما في الجزء الختامي من التحقيق، فتظهر مقابلة مع روبرت باير، المسؤول السابق في وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية، الذي يمدح "صبر وجرأة الموساد"، مؤكدًا أنه "متقدم بسنوات ضوئية على غيره". غير أن هذه الشهادة لا تُقدَّم في سياق نقدي، بل تُستغل كدليل آخر على تفوق إسرائيل في "حرب العقول". هكذا، يتحول صوت خبيرٍ غربي إلى أداةٍ جديدة لإعادة إنتاج صورة "العبقرية الإسرائيلية"، بينما يتم تجاهل فشله في اكتشاف عملية 7 أكتوبر 2023.

في المحصلة، لا يمكن قراءة تحقيق L’Express بوصفه مادةً صحافية بقدر ما هو وثيقة دعائية تُعيد صياغة الوعي الغربي تجاه إسرائيل. فهو يمزج بين المعلومة والتحليل الاستخباراتي ليبني شرعية سردية للموساد: جهاز يخطئ أحيانًا لكنه يبقى "الضرورة الأمنية" التي تحمي الغرب من "الشرور الشرقية". وفي ذلك تكمن خطورة هذا النوع من الخطاب، إذ لا يكتفي بتجميل صورة جهازٍ استخباراتي، بل يُعيد صياغة حدود الأخلاق في العمل الأمني، ويحوّل القتل والتجسس إلى رموز براقة للذكاء والبطولة.

إن إعادة قراءة هذا التحقيق بعد عام على تفجير "البيجر" تكشف أنه لم يكن مجرد تقرير صحافي، بل عملية ترويج ناعمة تهدف إلى بناء شرعية للموساد وتحصينه من المساءلة، عبر شبكة من القصص المصاغة بعناية لتلميع "المهارة" وإخفاء الجريمة. فبينما يُطلب من الضحايا الصمت، يُكافأ المنفذون بالتصفيق، وتُستخدم الصحافة كأداةٍ في خدمة القوة، لا الحقيقة. بهذه الطريقة، يواصل الغرب الترويج للموساد - لا كجهاز استخباراتي فحسب، بل كرمزٍ لهيمنةٍ فكرية وأخلاقية تحاول فرض تعريفها الخاص للبطولة والعدالة في الشرق الأوسط.


الكاتب: غرفة التحرير




روزنامة المحور