تتناول هذه الدراسة، الصادرة عن مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات تحت عنوان "معالم على المسار الإسرائيلي لتقسيم سورية" للباحث الفلسطيني إبراهيم عبد الكريم، الجهود الصهيونية والإسرائيلية المستمرة لتفكيك سورية وتحويلها إلى كيانات طائفية وعرقية. تنطلق الدراسة من فرضية أن مشروع تقسيم سورية ليس حدثًا طارئًا، بل هو امتداد لرؤية صهيونية استعمارية قديمة تهدف إلى إضعاف المحيط العربي وإقامة كيانات صغيرة تابعة أو محايدة تجاه "إسرائيل"، بما يضمن أمنها وتفوقها الإقليمي.
الجذور التاريخية للمشروع التقسيمي
يوضح الباحث أن فكرة تقسيم سورية تعود إلى الحقبة الاستعمارية الأوروبية، عندما استخدمت فرنسا وبريطانيا أدوات دينية وطائفية لتقسيم بلاد الشام. فقد أنشأت فرنسا "متصرفية جبل لبنان" عام 1860، ثم قسّمت سورية بعد احتلالها سنة 1920 إلى ست دويلات طائفية (دمشق، حلب، لبنان الكبير، العلوية، جبل الدروز، الإسكندرون) - وهي الخطوة التي خدمت لاحقًا المشروع الصهيوني عبر إضعاف مركزية دمشق وتمهيد الطريق لفصل فلسطين عن سورية.
الدور الصهيوني المبكر
استعرضت الدراسة مقالات ووثائق لرموز صهيونية مثل جابوتنسكي وحاييم وايزمن الذين رأوا في تقسيم سورية مقدمة ضرورية لإنجاح المشروع الصهيوني في فلسطين. كما وثّق الباحث تصريح بن غوريون قبل عام 1948 الذي دعا فيه للاستعداد للهجوم على لبنان وسورية وشرق الأردن لإقامة دولة مسيحية في لبنان وتفكيك الدول المجاورة.
الخطط الإسرائيلية التقليدية لتقسيم سورية
بعد قيام "إسرائيل"، ظهرت خطط عسكرية وأكاديمية علنية لتقسيم الدول العربية، أبرزها خطة الجيش الإسرائيلي عام 1957 التي تحدثت عن إقامة دول درزية وكردية وعلوية في سورية. كما دعا مفكرون مثل ديفيد كاما وعوديد ينون إلى تفتيت سورية إلى كانتونات طائفية، معتبرين أن سورية الممزقة تمثل "الهدف الأسمى لإسرائيل على الجبهة الشرقية".
الدوافع الاستراتيجية الإسرائيلية
يرى الباحث أن الدافع وراء هذا المشروع هو تحقيق "الأمن الحيوي الإسرائيلي" من خلال خلق عمق استراتيجي مصطنع على حساب الجوار السوري، وضمان تفوق "إسرائيل" عبر إضعاف سورية سياسيًا وجغرافيًا. كما يرتبط التقسيم برغبة إسرائيل في إزالة سورية من معادلة الصراع العربي–الإسرائيلي، وتحويلها إلى كيانات ضعيفة تحتاج إلى الحماية الإسرائيلية.
الطروحات الإسرائيلية خلال الحرب السورية (2011–2025)
رصدت الدراسة دور "إسرائيل" في توظيف الحرب السورية لصالح مشاريعها التقسيمية. فقد شجعت عبر الإعلام والسياسة انفصال الدروز والأكراد، بالتنسيق مع الولايات المتحدة. وأكدت تقارير أن الخطة المشتركة بين واشنطن وتل أبيب كانت تهدف إلى "بلقنة سورية" وإنشاء نظام فيدرالي على أسس عرقية، بحيث تكون المناطق المنفصلة بمثابة "حاجز أمني لإسرائيل".
المواقف الإسرائيلية بعد الحرب
بعد استقرار نظام الأسد، أعادت "إسرائيل" صياغة مقاربتها عبر دعوات علنية لتقسيم سورية إلى مناطق نفوذ وفدراليات: دولة كردية شمالًا برعاية أمريكية، وأخرى علوية في الساحل برعاية روسية، ومنطقة درزية جنوبًا برعاية إسرائيلية – أردنية. وأبرزت تصريحات لسياسيين إسرائيليين مثل نتنياهو وتسفي هاوزر ويوني بن مناحيم دعم فكرة إقامة كانتونات طائفية تابعة لـ"إسرائيل" لتأمين حدودها الجنوبية ومنع عودة النفوذ الإيراني.
الممر الإسرائيلي "صلاح الدين / داود"
توقفت الدراسة عند ما تسميه "ممر صلاح الدين/داود" – وهو مشروع قديم متجدد تسعى "إسرائيل" من خلاله إلى إنشاء ممر جغرافي يمتد من حدودها عبر الجولان إلى الشمال السوري والأناضول، بما يربط بين مناطق النفوذ الإسرائيلية والممرات الاقتصادية الجديدة في الشرق الأوسط.
آفاق المشروع وردّ الفعل السوري
ترى الدراسة أن "إسرائيل" تراهن على استمرار هشاشة الوضع السوري وضعف الدولة المركزية لتكريس واقع التقسيم بحكم الأمر الواقع، عبر تحالف الأقليات وتغذية الانقسامات. أما النظام السوري، فتصف خياراته بأنها "واقعية" ومحدودة، يوازن فيها بين تثبيت بقاء الدولة وتجنّب مواجهة مباشرة مع "إسرائيل" في ظل التوازنات الدولية الحالية.
يخلص الباحث إبراهيم عبد الكريم إلى أن تقسيم سورية ليس مشروعاً إسرائيلياً معزولاً بل جزء من رؤية صهيونية أوسع لتفكيك المشرق العربي وتحويله إلى فسيفساء طائفية تدور في الفلك الإسرائيلي. ويشير إلى أن هذا المسار مستمر ومتجدد، ويتخذ أشكالاً ناعمة أحياناً (فيدرالية، مناطق عازلة، تحالفات أقليات) لكنه يهدف في جوهره إلى إخراج سورية من معادلة الصراع العربي–الإسرائيلي، وترسيخ إسرائيل كقوة مهيمنة في الإقليم.
المصدر: مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات
الكاتب: أ. إبراهيم عبد الكريم