لم يعد التطبيع السوري – الإسرائيلي في ظل الحكومة الجديدة مسألة محرّمة أو خفية. فالإعلان الرسمي الصادر من دمشق، مساء أمس، عن لقاء مباشر جمع وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني بنظيره الإسرائيلي للشؤون الاستراتيجية رون ديرمر، شكّل تحوّلاً سياسياً بالغ الدلالة. اللقاء الذي انعقد في باريس، برعاية المبعوث الأميركي الخاص إلى سوريا توماس برّاك، كان الثاني من نوعه، وجاء في توقيت بالغ الحساسية، خصوصاً أنّه خُصّص لمناقشة ملف الجنوب السوري، وعلى رأسه محافظة السويداء.
اللافت أنّ الإعلان لم يُقدَّم بوصفه خطوة استثنائية، بل كمجرّد "اجتماع طبيعي" لبحث سبل تعزيز الاستقرار، ما يعكس تحوّلاً في خطاب الحكومة السورية. فهذه السلطة التي ورثت سوريا بعد سقوط النظام السابق، باعت الجولان وقبلها القضية الفلسطينية، وانقلبت على ثوابت السوريين الوطنية وتمسّكهم بأرضهم، وباتت تتعامل مع إسرائيل بشكل علني، وتمهّد بشكل سافر لتطبيع رسمي مع كيان الاحتلال، على الرغم من المجازر الإسرائيلية اليومية بحق سكان غزة.
الاجتماع السوري – الإسرائيلي لم يكن معزولاً عن سياق أوسع، فقد سبقه لقاء جمع المبعوث الأميركي برّاك بزعيم الطائفة الدرزية في الأراضي المحتلة موفق طريف، المقرّب من رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو. طريف طرح سلسلة مطالب "باسم الدروز"، أبرزها: تثبيت وقف إطلاق النار، فتح ممر آمن للمساعدات الإنسانية بإشراف أميركي، رفع الحصار عن السويداء، وإطلاق سراح المختطفين وعودة النازحين. هذه البنود بدت وكأنها مقدمة لشرعنة "الكيان الدرزي" في الجنوب، وتعزيز ارتباطه بالمشروع الإسرائيلي.
المطالب التي ترددت في الاجتماع أعادت إلى الواجهة سؤال الدور الأميركي، الذي يسعى إلى إعادة هندسة الوضع السوري على قاعدة "السلطة اللامركزية". تسريبات صحافية، بينها ما نشره موقع أكسيوس، كشفت أنّ إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب تدرس صيغة اتفاق يتضمن إنشاء "ممر إنساني" بين السويداء وإسرائيل، باعتباره خطوة أولى نحو تهدئة أوسع قد تُستثمر في مسار تطبيع تدريجي تقوده واشنطن.
في المقابل، حاولت دمشق امتصاص ردود الفعل الداخلية الغاضبة من خلال تأكيد أنّ المساعدات الإنسانية لن تمر عبر ممر عابر للحدود، بل حصراً عبر مؤسسات الدولة في العاصمة. وكالة سانا شددت على أنّ الحكومة قدّمت التسهيلات للمنظمات الأممية، وأن القوافل الوطنية تواصل عملها بشكل منتظم، في محاولة لتأكيد أنّ السيادة السورية لا تزال قائمة ولو شكلياً.
لكن التطورات الميدانية بدت أكثر تعبيراً عن الواقع الجديد، إذ دخل رتل تابع لقوات الأمم المتحدة (يوندوف) إلى السويداء عبر الطريق الذي تحاول إسرائيل تحويله إلى ممر يصل الجولان المحتل بمناطق الجنوب السوري. هذه الخطوة تزامنت مع جولات ميدانية لوفود دولية برفقة فصائل درزية محلية، ما رسّخ الانطباع بأنّ الجنوب السوري يتجه أكثر نحو وضع خاص خارج سيطرة الدولة المركزية.
من جهة أخرى، كشفت أوساط مقرّبة من الرئيس الانتقالي أحمد الشرع (الجولاني) عن توجه لتأجيل الانتخابات البرلمانية المقررة في أيلول المقبل، في ظل تعقيدات المشهد الميداني في الشمال الشرقي والجنوب. ووفق التسريبات، فإن هذا التوجه يحظى بغطاء أميركي – فرنسي مشترك، ويستند إلى الدفع باتجاه صيغة "اللامركزية السياسية"، خصوصاً بعد نجاح نموذج السويداء في فرض نوع من الإدارة الذاتية بدعم خارجي.
في موازاة ذلك، تواصل واشنطن التمهيد لمشاركة الشرع في اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك الشهر المقبل، في سابقة لم تشهدها الدبلوماسية السورية منذ عام 1967. ولإعطاء الخطوة بعداً إضافياً، أصدر الشرع مرسوماً بتعيين إبراهيم عبد الملك علبي، الحامل لثلاث جنسيات (سورية، بريطانية، ألمانية)، مندوباً دائماً لسوريا في الأمم المتحدة، في رسالة تعكس الانفتاح على الغرب وإعادة تموضع سوريا الجديدة في المشهد الدولي.
في المحصلة، ما يجري اليوم يتجاوز مجرد لقاء دبلوماسي عابر، فهو يعكس مساراً متدرجاً لتكريس واقع سياسي وجغرافي جديد في سوريا. واقع يقوم على إدارات محلية شبه مستقلة، وعلى فتح قنوات علنية مع "إسرائيل"، برعاية أميركية مباشرة، بما يضع البلاد أمام مرحلة مختلفة جذرياً عن كل ما عرفته منذ عقود.
الكاتب: حسين شكرون