الفقاعة، في معناها المجازي، هي مساحة افتراضية يختبئ فيها الإنسان من ضجيج الواقع. هي مكان آمن متخيَّل يتيح له إعادة ترتيب الأحداث بما يناسب صورته عن ذاته، حتى وإن كانت الصورة مزيفة. هذه الفقاعة لا تُبنى على الوقائع بقدر ما تُبنى على الإيحاء والإنكار وتضخيم الذات.
بالنسبة لترامب، الفقاعة ليست هروباً من الفشل بقدر ما هي بناءٌ لوهم النجاح. هو لا يرى العالم كما هو، بل كما يريد أن يراه. فكل مشروع معلّق أو أزمة متفجرة، يمكن تحويلها في خطابه إلى "إنجاز تاريخي" أو "اتفاق غير مسبوق". بهذه الطريقة، يدخل ترامب نفسه والعالم إلى عالم موازٍ، حيث يصبح تصنيف الحروب كـ "خطوات نحو السلام".
في هذه الفقاعة، لا وجود للمجازر في غزة أو اليمن أو لبنان، بل هناك "اتفاقات ناجحة يعقدها ترامب مع نفسه ربما من أجل الاستقرار". لا وجود لاحتلال أو حصار، بل "ضمانات للأمن" -الذي هو غير متوفر أصلاً-. ترامب لا يتعامل مع الواقع السياسي كصراع معقد له تاريخه وأساسه وجذوره، بل كعرض تلفزيوني يمكن التحكم في زواياه. هذه الفقاعة تتيح له الشعور بالسيطرة المطلقة نتيجة إنجازات متخيَّلة، حتى لو كان العالم من حوله يغرق في الفوضى.
الهوس بالبطولة والنرجسية المتضخّمة
من يراقب ترامب يدرك أن سلوكه لا يختلف كثيراً عن المؤثرين على وسائل التواصل الاجتماعي. كلاهما يحرص على تصدير صورة مثالية عن الذات نجاح دائم، شعبية مطلقة، وحياة زهرية جميلة فيها كل الأمنيات والأحلام. في المقابل، يختبئ خلف هذه الصورة الكثير من عدم الاستقرار والمشاكل والثغرات في الحياة التي تحمل قلقاً دائماً، والكثير من الهشاشة.
ترامب، مثل هؤلاء المؤثرين، يعيش في فقاعته ويفرح في عدد الإعجابات، لكن في حالته كـ رئيس يريد "إعجاب الرؤساء والشعوب". فكل تصريح "ناري"، وكل وعد مبالغ فيه يقدمه ترامب بنمطه الاستعراضي المتبع، هو محاولة لجلب المزيد من "اللايكات". لذلك لعل تشبيه ترامب بأنه يعيش داخل فقاعة – تحجب الواقع عنه وتمنحه صورة العظمة التي يريد _ هو التشبيه المناسب. لذلك، حين يواجه الانتقاد، لا يرد بالاعتراف أو المراجعة، بل بالمزيد من الضجيج والمبالغة، ليُغطي الواقع بخطاب صاخب.
إنه لا يحتمل رؤية صورة عالمٍ لا يكون فيه هو المنقذ أو المصلح. لذلك يصنع عالماً خاصاً به، تماماً كما يصنع المؤثر على "إنستغرام" يوميات براقة لحياة لا تشبه حياته. وبهذا، تتحول السياسة إلى عرضٍ مستمر، لا غاية لها سوى تكريس "أمجاد" البطل الذي يعتقد أنه وحده قادر على إنقاذ أميركا والعالم من الانهيار.
الفقاعة كأداة سياسية لخداع العالم
لكن الفقاعة ليست مجرد ظاهرة نفسية، بل أيضاً أداة سياسية فعّالة. فترامب، بقدر ما يصدق روايته عن ذاته، يدرك أن تضخيم الوهم يمكن أن يخدم أهدافاً استراتيجية. فعندما يُقنع الرأي العام – وينجح بإدخالهم إلى فقاعته - بأن "السلام يترسخ" في الشرق الأوسط، أو أن "أميركا استعادت عظمتها"، فإنه يبرر استمرار تدخلاته العسكرية أو الاقتصادية باسم حماية هذه الصورة.
هذه السياسة ليست جديدة في التاريخ الأميركي. فقد استخدمت واشنطن الوهم مراراً مثل أوهام "ترسيخ الديمقراطية في العراق وتحرير الشعوب" واحتلالهم في الواقع، و"الحرب على الإرهاب" ومساندته في الواقع، و"السلام الإبراهيمي" وإقناع الشعوب بأن "إسرائيل محبة للسلام ولكن لا أحد يقدم يده لها" بينما ترتكب "إسرائيل" في الواقع آلاف المجازر وتهجر الشعوب وتقتلها وتجوعها. الفارق هنا أن فقاعة الوهم هذه أعجبت ترامب فعلاً لذلك لم يكتفي بالتسويق لها فقط، بل يعيشها. ويريد جر العالم كله إلى داخلها لأنها استراتيجية تمويه تُغرق العالم في السرديات الأميركية وتمنح ترامب نشوة "الانتصار".
الكاتب: غرفة التحرير