منذ السابع من أكتوبر وما أعقب ذلك من حملات عسكرية إسرائيلية ضد غزة ولبنان وسوريا واليمن، وصولًا إلى المواجهة غير المباشرة مع إيران، شهد الخطاب الإسرائيلي تحوّلًا لافتًا. فقد انتقلت مقولة "السلام عبر القوة" من شعار ردعي إلى مشروع سياسي–استراتيجي يسعى إلى فرض نظام أمني جديد في المنطقة. هذا المفهوم الذي تبناه بنيامين نتنياهو بدعم من الإدارة الأمريكية، يهدف إلى هندسة المشهد الجغرافي والسياسي بما يخدم بقاء إسرائيل كقوة مهيمنة، حتى ولو أدى ذلك إلى إشعال حروب جديدة تحت غطاء "السلام".
من الردع إلى الهيمنة
أصل مفهوم "السلام عبر القوة" يقوم على بناء قوة ردع تمنع الحروب وتُهيّئ بيئة تفاوضية. لكن في السياق الإسرائيلي–الأمريكي المعاصر، تحوّل المفهوم إلى نظرية للهيمنة والسيطرة، تُعيد تعريف السيادة الإقليمية كقابلية لإعادة تشكيل الحدود والأنظمة بالقوة العسكرية والسياسية والاقتصادية.
نتنياهو، الذي استلهم بعض أفكاره من بن غوريون، أعاد صياغة المفهوم ليصبح أداة هجومية لتغيير موازين القوى، لا للحفاظ عليها. ومن هنا جاء الانتقال من "إدارة الصراع" إلى "قطع الرأس"، عبر استهداف القيادات والبنى الحيوية في محور المقاومة، وتحويل الحرب إلى أداة داخلية لتثبيت الائتلاف الحاكم وكسب القاعدة اليمينية المتطرفة.
إعادة هندسة الإقليم
ترتكز الخطة على تفكيك محور المقاومة عبر هجمات مركّزة على القيادات والبنى اللوجستية، مع فرض حصار اقتصادي ودبلوماسي على القوى المعادية لإسرائيل. وفي موازاة ذلك، يجري الضغط على دول مثل مصر والأردن لاستيعاب الفلسطينيين المهجّرين تحت مسمى الترتيبات الإنسانية، بينما تُدفع دول الخليج إلى تمويل هذه العملية مقابل ضمانات أمنية وعقود اقتصادية.
وتبرز قطر في هذا السياق كنموذج لما تسميه الخطة "تقليم دور الوسطاء"، إذ تحوّل الهجوم الإسرائيلي عليها إلى رسالة مفادها أن واشنطن وتل أبيب لم تعودا تقبلان بدور الدوحة كقناة تفاوض مستقلة، بل تريدان إدارة مباشرة للصراعات دون وسطاء. هذا النهج أضعف الثقة بين الحلفاء الإقليميين وكرّس منطق الإملاء العسكري بدل الدبلوماسية.
عقبات المشروع
رغم وضوح أهداف الخطة، تواجه "السلام عبر القوة" عقبات بنيوية وسياسية عميقة.
أولها، تباين المصالح العربية والإسلامية وتغليب الحسابات الوطنية الضيقة على الرؤية المشتركة. وثانيها، أن الخطة تفرض تهدئة أمنية من دون معالجة جذور الصراع، فتتحول من مشروع سلام إلى آلية لإدارة النزاع. وثالثها، هشاشة البيئة الإقليمية وتعدد القوى المتدخلة، ما يجعل أي استقرار مؤقتًا وغير مضمون. وأخيرًا، ينظر الرأي العام العربي إلى هذه السياسات كاستمرار للتطبيع القسري، مما يفرغ فكرة السلام من مضمونها الأخلاقي والسياسي.
مواقع الدول في الخطة
تتعامل الخطة الأمريكية مع مصر كحارس حدود أكثر منها شريكًا سياسيًا، إذ يُطلب منها ضبط معبر رفح وتأمين المساعدات تحت إشراف أمني صارم مقابل دعم مالي.
أما الأردن، فيُراد له أن يلعب دور المنطقة العازلة ديموغرافيًا، يتحمل تبعات التهجير الفلسطيني ويضبط أمن الضفة الغربية.
في المقابل، يُنظر إلى سوريا كمساحة للفوضى المنضبطة، تُمنع من إعادة بناء نفسها لتبقى حاجزًا يفصل محور المقاومة.
أما إيران فتُصوَّر كالعقبة المركزية أمام أي نظام إقليمي جديد، ما يجعل الخطة جزءًا من مشروع أوسع لعزلها وتقويض نفوذها في العراق ولبنان وغزة.
وأخيرًا، تنقسم مواقف دول الخليج بين حذر سعودي يسعى إلى مكاسب سياسية وأمنية، ودور إماراتي يستثمر في إعادة الإعمار، وقطر التي فقدت كثيرًا من وزنها كوسيط بعد استهدافها العسكري.
خاتمة: سلام يكرّس الحرب
في جوهرها، لا تسعى استراتيجية "السلام عبر القوة" إلى تحقيق تسوية عادلة بقدر ما تهدف إلى فرض وقائع جديدة بالقوة. فغزة تحوّلت من رمز للمقاومة إلى ملف إداري-أمني يُدار بتكنوقراطية دولية تحت إشراف أمريكي-إسرائيلي، بينما تُختزل القضية الفلسطينية في ترتيبات مؤقتة لتبادل الأسرى ووقف النار.
لكن هذا "السلام المزعوم" يفتقد الأفق السياسي والشرعية الأخلاقية، لأنه يتجاهل جوهر الصراع: الاحتلال والحق في تقرير المصير. ومع فشل إسرائيل في تحقيق أهدافها في غزة، تراجعت فكرة "النصر الحاسم"، وباتت الخطة نفسها عنوانًا للاستنزاف الطويل والعزلة الإقليمية.
هكذا ينكشف أن "السلام عبر القوة" ليس سوى استمرار للحرب بأدوات جديدة، وأنه مشروع يهدد بانفجار المنطقة بدل استقرارها.