شهدت العقيدة العسكرية الإسرائيلية خلال السنوات الأخيرة تحوّلاً نوعيًّا في طريقة مقاربتها لمفهوم العمل العسكري، بعد أن كانت محصورة تقليديًا في نطاق الدفاع داخل الحدود أو في محيطها القريب. فقد فرضت التحولات الإقليمية والدولية، ولا سيما تصاعد التهديدات من إيران واليمن، الحاجة إلى تطوير قدرة هجومية وتشغيلية تعمل في أعماق جغرافية بعيدة المدى. ومن هذا المنطلق، جاءت هذه الدراسة الصادرة عن مركز "دادو" لتؤسس رؤية عقائدية وعملية متكاملة لعمليات من هذا النوع، مستندة إلى التجارب الإسرائيلية الحديثة والتاريخية وإلى نماذج دولية أثبتت فعاليتها في التخطيط والتنفيذ.
توضح الدراسة أن صياغة عقيدة رسمية للعمليات البعيدة تتطلب بنية سياسية وعسكرية ولوجستية منظمة، وشراكات مدروسة مع أطراف محلية ودولية، وإجراءات استباقية لتأسيس قواعد أمامية قادرة على دعم العمليات البعيدة. وانطلاقاً من هذه الرؤية، تطرح الدراسة تسعة مبادئ تشغيلية أساسية تشكل إطاراً عملياً لتخطيط وإدارة هذا النوع من العمليات.
أول هذه المبادئ هو الشرعية، التي تقتضي خلق غطاء سياسي ودولي يبرر التحرك العسكري ويمنحه مشروعية قانونية وأخلاقية. يليها مبدأ الشراكات، الذي يركز على حشد الحلفاء وتأمين الدعم السياسي والعسكري واللوجستي وحرية العبور. أما تكييف القوة فيتعلق بمواءمة القدرات والتشكيلات مع طبيعة المهمة، من خلال تدريب نوعي وتسليح سريع ومتخصص. ويأتي بعد ذلك مبدأ التفوق الاستراتيجي الذي يؤكد أهمية ضمان حرية الحركة والوصول إلى ساحة القتال دون عوائق، والبنية التحتية الأمامية التي تتيح إنشاء قواعد ومخازن واتصالات متقدمة داخل مناطق العمليات. كما تبرز أهمية تأمين خطوط الإمداد لحماية طرق النقل والدعم من أي استهداف معادٍ، وإنشاء رأس جسر عملياتي داخل المنطقة المستهدفة كنقطة ارتكاز رئيسية. وتستكمل المبادئ بمفهومي التفوق المحلي لضمان السيطرة التكتيكية في أرض المعركة، وتأمين الانسحاب الذي يهدف إلى حماية القوات عند إنهاء المهمة وانسحابها بأمان.
استندت الدراسة إلى تجارب دولية متعددة لتدعيم هذه المبادئ. فقد استلهمت من التجربة الفرنسية مفهوم "عمليات الدخول الأولي" الذي يركّز على الانتشار السريع، ومن التجربة البريطانية في حرب الفوكلاند نموذج الإسقاط البحري والجوي البعيد، فيما قدمت التجربة الأمريكية في العراق وأفغانستان نموذجاً متقدماً في إدارة البنية اللوجستية والتحالفات متعددة المستويات. ومن خلال هذه المقارنات، تدعو الدراسة إلى استنساخ ما يتناسب مع البيئة الإسرائيلية، مع التركيز على التنسيق والتموضع وتوزيع الأدوار.
وتتناول الدراسة كذلك مسألة الشراكات الاستراتيجية، مؤكدة أن نجاح أي عملية بعيدة يعتمد على التعاون المسبق مع أطراف دولية، وفي مقدمتها الولايات المتحدة، لتأمين القواعد المحتملة وتسهيل العبور والدعم اللوجستي والاستخباري. كما تشدد على ضرورة إشراك المجموعات المحلية في مناطق العمليات عندما يكون ذلك مفيداً، مع الحذر من تضارب المصالح وضرورة إدارة العلاقات معها بتوازن دقيق بين الأهداف السياسية والاستخبارية.
أما على صعيد القدرات الراهنة، فتشير الدراسة إلى أن الجيش الإسرائيلي يمتلك بالفعل اللبنات الأساسية للعمل في مسارح بعيدة. ومن بين الأمثلة التي تستند إليها الدراسة: عملية "عام كلافي" ضد إيران في حزيران/يونيو 2025، والعمليات ضد الحوثيين في اليمن، والعمليات الخاصة خلال حرب "السيوف الحديدية"، فضلاً عن تجارب سابقة مثل إنزال اللواء 35 في نهر العوالي عام 1982. وتبرز في هذا السياق وحدات مثل لواء "أوز" وفرقة 98 كركائز مركزية للقدرات البرية الخاصة القادرة على تنفيذ هذه المهام.
تخلص الدراسة إلى أن القدرة الإسرائيلية على تنفيذ عمليات في عمق جغرافي بعيد لم تعد فكرة نظرية بل واقعاً قيد التطوير، وأن نجاحها يعتمد على بناء إطار عقائدي واضح، وتكامل بين البنية السياسية والعسكرية واللوجستية، إضافة إلى شراكات محلية ودولية محسوبة بعناية. وتشدد على أن أي عملية ناجحة تبدأ بتهيئة الظروف السياسية والعملياتية قبل أي تحرك ميداني.
وفي الختام، تقدم الدراسة مجموعة من التوصيات العملية أبرزها: ضرورة بلورة عقيدة رسمية للعمليات البعيدة ضمن هيكل الجيش الإسرائيلي، وتعزيز الشراكات مع الولايات المتحدة وشركاء إقليميين ودوليين، واستباق العمليات بتأسيس بنى تحتية مناسبة من قواعد وتحالفات وتموضع استخباري. كما توصي بتوسيع قدرات لواء "أوز" والفرقة 98 لتكون حجر الأساس لأي عملية بعيدة، وتعزيز مرونة التدريب والتجهيز السريع لمواجهة المتغيرات المفاجئة، وأخيراً وضع خطط طوارئ دقيقة لتأمين الانسحاب بعد إتمام المهام.
المصدر: مركز دادو
الكاتب: المقدم (احتياط) الدكتور دوتان دروك