الخميس 16 تشرين أول , 2025 03:35

المقاومة والسلاح: معركة الوجود لا المفاوضة

عناصر من حماس

من السهل أن يتحدث العالم عن "وقف الحرب"، ولكن من الصعب أن يعترف بأن ما يُراد إيقافه ليس الحرب بل الوجود ذاته. فحين يجلس الوسطاء في شرم الشيخ أو واشنطن ليتداولوا "مستقبل السلاح" في غزة، فإنهم لا يناقشون مسألة تقنية أو سياسية، بل يناقشون معنى أن يبقى الفلسطينيون أحياء، أحراراً، قادرين على قول "لا" في وجه القوة العظمى التي صاغت النظام الدولي على صورتها.

نزع السلاح أم نزع المعنى؟

في كل حرب تُخاض ضد غزة، يتجدد السؤال نفسه بصيغ مختلفة: هل يمكن أن توجد مقاومة منزوعة السلاح؟ وهل يمكن للضعيف أن يفاوض على شروط بقائه من دون أن يسلّم بمقتله الرمزي؟ هذه هي المعضلة التي تحاول واشنطن وتل أبيب صياغتها في شكلٍ قانوني وأممي، عبر ما تسميه "قوة الاستقرار الدولية"، أو "الترتيبات الانتقالية"، أو "ضمانات إعادة الإعمار"، لكن خلف هذا الخطاب الدبلوماسي، تختبئ فلسفة إمبراطورية قديمة: أن السلام لا يتحقق إلا بعد نزع مخالب الضحية.

المقاومة تدرك، كما تدرك "إسرائيل"، أن السلاح ليس أداة، بل هو الذاكرة التي تحفظ الوجود. هو التعبير العملي عن حق الفلسطيني في أن يكون سيد قراره، لا تابعاً في منظومة "سلامٍ استعماري" تديره القوى الغربية. ومن هنا يصبح الحديث عن نزع سلاح المقاومة، أو حتى وضعه تحت وصاية دولية، نوعاً من إعادة هندسة الوعي الفلسطيني ليقبل فكرة الحياة ضمن شروط الاحتلال.

بين الخراب والكرامة: حين لا تُقاس الهزيمة بالركام

منذ السابع من أكتوبر، تحوّلت المعادلة بالكامل. فالمقاومة التي وُصفت طويلاً بأنها عبء على "القضية"، أصبحت اليوم محوراً لإعادة تعريف النصر والهزيمة. صحيح أن الحرب خلّفت دماراً هائلاً في غزة، لكن ما لم يُدركه العالم بعد، أن الخراب المادي لا يُقاس بمعيار الهزيمة. فالحروب الحديثة، خصوصاً حين تكون بين مستعمِرٍ ومستعمَر، لا تُحسم بالمدافع بل بالمعنى. و"إسرائيل"، رغم كل ما أنزلته من جحيم، لم تستطع كسر المعنى الذي صنعته المقاومة في وعي الفلسطينيين والعرب، بل وربما في وعي "الإسرائيليين" أنفسهم.

الولايات المتحدة، التي تقدّم نفسها كراعٍ للسلام، لم تفعل سوى أن تضع الحرب في قوالب جديدة: من القنابل إلى المؤتمرات، ومن المذابح إلى البيانات. لكن الجوهر واحد: السيطرة. فـ"اتفاق شرم الشيخ" ليس اتفاقاً للسلام، بل إعادة إنتاجٍ هندسيةٍ لميزان القوة في المنطقة، بحيث تبقى "إسرائيل" الطرف المهيمن، وتتحول غزة إلى مختبرٍ لتجارب النظام الغربي في "إدارة المجتمعات المتمرّدة".

في نظر واشنطن، لا يمكن لقطاع صغيرٍ محاصرٍ أن يمتلك قرار الحرب والسلم. هذه الفكرة وحدها تهدد نموذج السيطرة الإمبريالية الذي أسس له الغرب منذ سايكس–بيكو وحتى اليوم. لذلك فإن الحرب على غزة ليست حرباً على "حماس" كما يُقال، بل على مفهوم المقاومة ذاته: على حقّ شعبٍ في أن يقول إن قوّته ليست جريمة، وإن الدفاع عن نفسه لا يُصنَّف "إرهاباً".

ولهذا، حين ترفض المقاومة نزع سلاحها، فهي لا ترفض تسوية سياسية، بل ترفض إلغاء ذاتها. لأن السلاح في الوعي المقاوم ليس بندقية، بل ترجمة مادية لحقٍ تاريخي، ومفتاحٌ للكرامة الوطنية. نزع السلاح يعني تجريد الفلسطيني من رمزه الأخير، وتحويله من فاعلٍ في التاريخ إلى ضحيةٍ في متحفٍ دولي للشفقة الإنسانية.

لكنّ المفارقة الكبرى تكمن في أن "إسرائيل"، التي تخوض معركتها تحت شعار "نزع سلاح الإرهاب"، تدرك في قرارة وعيها أنها فشلت في تحقيق هدفها الأساسي: تدمير إرادة القتال. فبعد حربٍ استمرت عامين، لم تستطع "إسرائيل" أن تفرض معادلتها على الأرض. المقاومة ما زالت هناك، أضعف ربما، لكنها باقية، متماسكة، تدير الأرض من تحت الركام، وتعيد تنظيم مجتمعها على نحوٍ لا يفهمه العقل الغربي الذي يرى في الفوضى علامةَ انهيار، بينما تراها المجتمعات المقهورة علامةَ حياة.

في الخطاب الأميركي، يُقال إن السلاح يجب أن يخضع "لمنظومة الدولة"، لكن أي دولة؟ تلك التي تُدار من مكاتب المندوب السامي الجديد طوني بلير؟ أم تلك التي وُلدت من رحم اتفاقٍ كُتب في البيت الأبيض على جثث المدنيين؟ إن المطالبة بنزع السلاح قبل قيام الدولة، هي اشتراط المستحيل لتبرير الدمار.

المقاومة هنا لا تدافع عن السلاح كأداة، بل عن المعنى الذي يحمله السلاح في سياقٍ تاريخيٍ طويل من القهر. فحين يُقال للفلسطيني: ضع سلاحك وسنمنحك دولة، يُدرك أن ما سيُمنح له ليس دولة بل إدارة مدنية للنكبة. لأن الدولة التي تولد من رحم الإملاء الخارجي، لا تُقيم عدالةً بل نظاماً جديداً من الطاعة.

معركة الرواية: من يكتب تاريخ الوجود؟

في لحظة ما بعد الحرب، يبدو أن واشنطن تحاول أن تُعيد صياغة مفهوم النصر: النصر ليس هزيمة العدو، بل إعادة تشكيل وعي الشعوب. ولذلك فإن "النصر الصهيو-أميركي" في غزة، إن تحقق، لن يُقاس بعدد القتلى، بل بعدد من يقتنعون بأن المقاومة كانت عبثاً. هذه هي الحرب التي تخوضها الإمبراطورية اليوم: حربٌ على الذاكرة.

لكن غزة، كما أثبتت مراراً، ليست مكاناً يُقاس بموازين القوة. إنها استعارةٌ عن فكرة الرفض. ولذلك ستظل المقاومة هناك، لا لأنها تملك السلاح، بل لأنها تملك ما هو أخطر: إيماناً عميقاً بأن الضعف ليس قدراً، وأن الشعوب التي تُهزم عسكرياً، تستطيع أن تنتصر أخلاقياً وثقافياً وسياسياً على من يملكون كل أدوات البطش.

في نهاية المطاف، ليست معركة السلاح معركة تقنية، بل معركة هوية. من يملك السلاح في غزة لا يملك فقط القدرة على الردع، بل يملك الحق في سرد التاريخ من موقع الفاعل لا الضحية. ولذلك، حين تتحدث واشنطن وتل أبيب عن "نزع سلاح حماس"، فإن ما يقصدانه فعلياً هو نزع رواية المقاومة من الوعي الجمعي الفلسطيني.

إن معركة السلاح هي معركة الوجود. ومهما طال التفاوض أو تبدلت الصيغ، فإن الحقيقة تبقى كما هي: لا يُمكن لشعبٍ أن يفاوض على كرامته، ولا يمكن لقوةٍ مهما بلغت أن تُقنع شعباً حراً بأن خضوعه هو طريق نجاته. فحين يُطلب من المقاومة أن تضع سلاحها، يُطلب منها أن تُعلن استسلامها الرمزي للعالم الذي قرر منذ زمنٍ بعيد، أن الحرية جريمة إذا صدرت عن الجنوب.

وغزة، كما في كل مرة، ستُثبت أن الموت أهون من أن تُوقّع شهادة وفاتها بيدها.


الكاتب: غرفة التحرير




روزنامة المحور