كانت علاقة الهند بأفغانستان تاريخياً مزيجاً من تقارب حضاري وتداخل استراتيجي؛ فالهند اعتبرت أفغانستان جزءاً من فضاء جغرافي وثقافي يؤثر في أمنها الإقليمي، بينما استُخدمت كابل تاريخياً كحلبةٍ لعبور قوى إقليمية. في القرن العشرين، ومع بروز "اللعبة الكبرى" وتشكّل باكستان بعد عام 1947، تغيرت الديناميكية حيث باتت باكستان الخصم المباشر لأفغانستان في العديد من الملفات، وأصبحت علاقات كابل - نيودلهي تتأثر دائماً بمستوى التوتر بين باكستان والهند. أي أن الهند فعلياً لم تدخل في صراع مباشر مع أفغانستان بقدر ما استفادت من الخلاف الأفغاني – الباكستاني لتوطيد علاقاتها مع كابل وتقديم بديل سياسي ودبلوماسي لباكستان، خصوصاً في فترات الانقسامات الإقليمية.
لماذا تعيد الهند تقوية العلاقة مع طالبان الآن؟
التحوّل الهندي الذي يجري هذه الفترة ويتبلور في تقاربٍ مع طالبان بعد تراجع علاقاتهما في السنوات الماضية، يشكل في جوهره مصلحة للهند؛ فإعادة فتح السفارة في كابول ورفع مستوى التمثيل الذي جرى في 10 أكتوبر 2025 يندرج ضمن منطقين متداخلين أولاً، الاستفادة من الفراغ الدبلوماسي والشلل الذي خلّفه الانسحاب الأمريكي لإعادة بناء موطئ قدم سياسي وبنيوي في أفغانستان؛ ثانياً، استغلال تدهور العلاقات الأفغانية – الباكستانية لتقديم نيودلهي نفسها كقوة موازنة يمكنها تزويد كابل بمساعدات إنسانية ومشاريع بنية تحتية ونفوذ اقتصادي دون الاعتماد على باكستان.
هذا التحول ليس بالضرورة أن يكون قبولاً أيديولوجياً من الهند تجاه أفغانستان بل براغماتية استراتيجية. حيث تتعامل الهند مع طالبان كقوة حاضرة على الأرض، وتحرص على حماية مصالحها التي تتمثل في منع تكرار دعم "عناصر معادية" في المناطق الحدودية، الحفاظ على المشاريع مثل الممرات الاقتصادية، وتأمين نفوذ للهند في آسيا الوسطى عبر كابل. وهذا ما يدل عليه استضافة وزير خارجية طالبان أُمير خان متقي في الهند وكثرة الزيارات الدبلوماسية الرسمية بين البلدين، تؤكد أن نيودلهي اختارت طريقَ إحياء العلاقة مع أفغانستان لحماية مصالحها وتقليص مساحة تحرّك باكستان الاستراتيجية إضافةً إلى توسع دورها ونفوذها في منطقة جنوب آسيا.
الهند تسعى لتمدد إقليمي
آليات التمدد الهندي تتركز في ثلاثة محاور: نفوذ ناعم عبر المساعدات والمشاريع المدنية، بناء علاقات استخباراتية وأمنية محدودة، وتعزيز شبكة دبلوماسية إقليمية تتكامل مع مشاريع تمر عبر إيران وبلدان آسيا الوسطى مثل تشابيهار وشبكات طرق بديلة تتجاوز حدود باكستان. والهدف واضح يكمن في تحويل أفغانستان إلى شريك يتيح لها عمقاً استراتيجياً في آسيا الوسطى والجنوبية، ويمنحها قناة للتأثير الاقتصادي والسياسي في أوراسيا. ولا يستبعد هذا التمدد التعاون مع قوى كبرى أخرى مثل روسيا والصين طالما أن مصالح نيودلهي محمية.
كيف يفيد هذا التوسع إسرائيل بالضبط؟
الاستفادة الإسرائيلية من نفوذ الهند المتزايد في أفغانستان وآسيا تأتي عبر أطر عملية أولاً، توسيع سوق التصدير العسكري والتقني حيث تعد الهند شريك تقني وعسكري رئيسي لـ "إسرائيل"، وزيادة نفوذ نيودلهي تعني فرصاً أكبر لصفقات أسلحة، أنظمة مراقبة واستخبارات، وتعاون أمني. ثانياً، تعميق قنوات تبادل المعلومات الاستخباراتية ضد "الخصوم المشتركين" كذلك رصد أي تحركات من باكستان أو الإقليم ما يعزز قدرة "إسرائيل" على قراءة المشهد وترتيب مصالحها في العمق الآسيوي. ثالثاً، وجود نفوذ هندي مستقر في آسيا الوسطى وخطوط ربط برية وبحرية يسهّل للكيان علاقات اقتصادية ودبلوماسية أوسع مع دولٍ كانت سابقاً محصورة بنفوذ منافسين إقليميين، ما يعزز حضورها في مساحات جيوسياسية جديدة.
بالنسبة لأمريكا تكمن استفادتها بالطريقة التي ستنظر فيها إلى الوضع إما أن ترى في الهند شريكًا استراتيجياً يقلل الضغط على الجيش الأميركي في المنطقة وبالتالي يصبح تواجده ليس ضرورياً، أو تستخدم التطورات لتبرير عودة ميزات عسكرية أميركية إلى المنطقة مثل القواعد التي كانت سابقاً إذا رأت أن مصالحها الأمنية تُهدَّد. وهذا الخيار هو المرجح لأن ترامب في الآونة الأخيرة تحدث كثيراً عن ضرورة العودة إلى مواقع في أفغانستان مثل بغرام حيث قال: "خروج الولايات المتحدة من قاعدة بغرام في أفغانستان كان خطأ وسنعود إليها".
تستثمر الهند حالياً في الصراع بين باكستان وأفغانستان حيث تطلع إلى حماية مصالحها، إضعاف قدرة باكستان على الهيمنة، وبناء عمق آسيوي عبر أفغانستان. لكن هذا الطريق محفوف بالمخاطر لأنه قد يؤدي إلى تصعيد جديد مع باكستان يفاقم زعزعة الاستقرار، كذلك المقاومة المحلية لأشكال النفوذ الخارجي وخصوصاً الإسرائيلية وعودة القواعد الأميركية ما يقلل من جدوى الطموحات الهندية.
الكاتب: غرفة التحرير