شهدت زيارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى الخليج محطات عدة، توزعت بين السعودية، قطر والإمارات. وبينما كانت الأنظار تتجه نحو مخرجات القمة الخليجية–الأميركية، خصوصاً في ما يتعلق بالحرب الاسرائيلية على غزة، جاءت كلمات ممثلي الدول باهتة، لا تتجاوز في مضمونها التكرار الدبلوماسي المعتاد، دون تقديم أي مبادرة ملموسة أو تصور عملي لحل النزاع المستمر، لا سيما في ظل رفض إسرائيلي واضح ومعلن لفكرة حل الدولتين، حتى كإطار تفاوضي أولي.
الخطاب الأميركي نفسه بدا خالياً من المبادرات. فعلى الرغم من الترويج للقمة باعتبارها فرصة لإعادة صياغة العلاقة الأميركية–الخليجية، و"تاريخية" كما يصفها، فإن ترامب لم يضع على الطاولة أي تصور متكامل لحل أي من الملفات الحساسة. فلم تنتج الضغوط الاميركية -حتى الآن- صفقة بين حماس وكيان الاحتلال مع عدم رغبة الاخير في انهاء الحرب، ومع وغياب خطة اميركية واضحة للتسويق لها. والأمر نفسه ينسحب على الاعتداءات الاسرائيلية على لبنان، ومستقبل العلاقة مع سوريا، كذلك الامر بما يتعلق بالحرب الروسية الغربية في اوكرانيا والمفاوضات مع إيران. وبدت تصريحاته موزّعة بين رسائل عامة عن "الاستقرار" و"الشراكة الاقتصادية"، دون أي خطة عمل واضحة أو التزام سياسي جديد.
اللافت أن الحضور الأميركي، الذي عادة ما يُقرأ في المنطقة من زاوية "الضمانات الأمنية"، جاء هذه المرة محاطاً بسياق مختلف. ففي التوتر مع إيران والذي أنتجته التغيرات في المنطقة منذ 7 كتوبر، انتظرت دول خليجية –وفق ما لمح إليه ترامب نفسه– مؤشرات أو تحركات عسكرية، لكنها بدت محبطة من لهجة الخطاب، الذي كرر فيه الرئيس الأميركي أكثر من مرة رغبته في التوصل إلى "اتفاق جديد" مع طهران، بما يوحي بأن التصعيد ليس على جدول أعمال إدارته حالياً، بل أن المقاربة المعتمدة هي إعادة فتح قنوات التفاوض من موقع القوة.
هذا التردد في الحسم، أو بالأحرى، الغموض في الاستراتيجية، ليس جديداً. فمنذ سنوات، تتعثر واشنطن في تحديد رؤيتها للشرق الأوسط. بين محاولات الانسحاب وتقليص التكاليف، من جهة، والعودة إلى لعب دور "الضامن" التقليدي، من جهة أخرى، تتأرجح السياسة الأميركية بلا بوصلة محددة. والنتيجة: زيارات رئاسية تُملأ بالرموز والبيانات، لكنها تخلو من الرسائل الاستراتيجية على المدى الطويل.
زيارة ترامب لم تكن استثناءاً من هذا السياق. فحتى في أكثر الملفات تعقيدًا -كالصراع الفلسطيني-الإسرائيلي أو مستقبل العلاقات الخليجية–الإيرانية– لم يصدر عن الرئيس الأميركي أي خطاب يُفهم منه موقف سياسي متماسك، أو على الأقل رغبة في كسر الجمود القائم. بل بدا وكأن الإدارة الأميركية تكتفي بإدارة الوقت، في انتظار استحقاقات داخلية أو دولية تحدد وجهتها المقبلة.
في قطر، بدت الأمور أكثر تركيزاً على الشراكة العسكرية. زيارة قاعدة العديد كانت بلا شك محطة مهمة، لكنها اقتصرت على التأكيد التقليدي على "قوة التحالف" و"أهمية القاعدة"، دون ربط هذا الوجود العسكري برؤية أشمل لأمن المنطقة. ما الهدف من بقاء القوات الأميركية بهذا الحجم؟ هل هناك تصور أمني متكامل تُبنى عليه هذه الشراكة؟ أم أن وجودها أصبح هدفاً بحد ذاته؟ لم يجب ترامب على أي من هذه الأسئلة.
حتى إسرائيل، التي يمكن اعتبارها عادة، الشريك المستفيد الأول من كل زيارة رئاسية أميركية إلى المنطقة، لم تحصل هذه المرة على ما اعتادت عليه. فبينما تزداد انتقادات المجتمع الدولي لسياسات حكومة رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، خصوصاً في غزة، لم يأتِ ترامب بجديد. لم يضغط من أجل تهدئة، ولم يعرض صيغة تفاوضية واقعية.
أما المحطة الأخيرة في الإمارات، فقد طغى عليها الطابع الاقتصادي، دون أن تحمل توقيعات استثنائية أو مبادرات ذات طابع استراتيجي. اللقاءات طمأنت الحلفاء إلى استمرار "الاهتمام الأميركي".
في العمق، ما افتقدته هذه الزيارة هو الرؤية. فترامب، رغم حضوره الواسع وتصريحاته اللافتة، لم يضع خريطة طريق لأي من الملفات الكبرى في الشرق الأوسط. لم يطرح تصوراً لأمن الخليج، ولا لمستقبل العلاقة مع إيران، ولا لأفق الحرب في فلسطين المحتلة.
ربما يكون هذا الغياب نابعاً من طبيعة اللحظة السياسية الأميركية نفسها، حيث تحتل الحسابات الداخلية، حيزاً واسعاً من الاهتمام. وربما يكون انعكاساً لتحوّل أعمق في الإدراك الأميركي لدور واشنطن في العالم. لكن بالنسبة للمنطقة، فإن غياب هذه الرؤية ليس مجرد تفصيل. هو فراغ يُملأ حتملً، من قبل لاعبين آخرين، ومن خلال سياسات الأمر الواقع التي تترك هوامش أقل للدبلوماسية وأكبر للمفاجآت.
الكاتب: غرفة التحرير