الأربعاء 22 تشرين أول , 2025 02:53

الانتقام الجماعي: الانتهاكات الممنهجة بحق الأسرى الفلسطينيين

السجون الإسرائيلية

منذ اندلاع عملية طوفان الأحرار وما تبعها من اتفاقات تبادل للأسرى بين المقاومة الفلسطينية والاحتلال الإسرائيلي، برزت شهادات مؤلمة تكشف عمق الانتهاكات التي مورست بحق الأسرى الفلسطينيين داخل السجون الإسرائيلية. فقد تحرر بين تشرين الثاني/نوفمبر 2023 وتشرين الأول/أكتوبر 2025 نحو 3985 أسيرًا في ثلاث مراحل متتالية، حملوا معهم حكاياتٍ تتجاوز حدود السجون لتوثّق واحدة من أبشع صور الانتقام الجماعي ضد الشعب الفلسطيني. هؤلاء الأسرى لم يخرجوا كأجسادٍ منهكة فحسب، بل كشهودٍ على جريمة إنسانية تمارس في الظلّ منذ عقود.

أول ما كشفه المحررون هو حجم العزلة التي فُرضت عليهم بشكلٍ متعمّد. فقد عاش كثيرون منهم في زنازين انفرادية لأشهر طويلة، محرومين من الزيارات والتواصل مع ذويهم، ومقطوعين عن العالم الخارجي تمامًا. لم يكن العزل مجرد تدبير أمني، بل أداة إذلال وتعذيب نفسي، رافقها تهديد دائم بقتل أفراد العائلة أو هدم المنازل، وإيهام بعض الأسرى بمقتل أقربائهم. بعضهم أُجبر على أعمال مهينة كضرب رفاقهم أو الصراخ بألفاظ نابية تحت تهديد السلاح. بل إن ممارسات المنع من الصلاة وحرمانهم من الأغطية لأكثر من أربع ساعات يوميًا، شكّلت أدوات ضغطٍ إضافية لكسر الإرادة والإيمان.

التعذيب الجسدي كان أكثر وحشية. فقد وصف أحد المحررين ما جرى بأنه "هدية الوداع" قبل الإفراج، إذ تعرّض الأسرى في الأيام الأخيرة لاعتداءات جماعية بالأيدي وأعقاب البنادق، واستُهدفت الإصابات القديمة عمدًا لتجديد الألم. وتنوّعت أساليب التعذيب بين الصعق الكهربائي، والركل والسحل، وحتى استخدام الكلاب الشرسة لترهيب الأسرى. بعضهم أُجبر على النوم فيما الكلاب تجثم فوق أجسادهم، فيما سجّلت شهادات عن اغتصاب وإهانات جسدية تركت ندوبًا في الجسد والذاكرة معًا.

أما ظروف الاحتجاز، فكانت أقرب إلى "مقابر بلا صوت"، كما وصفها أحد الأسرى. زنازين ضيقة مظلمة بلا تهوية، أرضيات باردة معدنية ينام عليها الأسرى من دون فرش أو أغطية كافية. الطعام المقدم فاسد، والمياه ملوثة، ما أدى إلى انتشار أمراض جلدية وهضمية. تُوزّع البطانيات لساعات معدودة ثم تُسحب، في ممارسةٍ لا يمكن وصفها إلا بالتعذيب البطيء المقنّن.

الإهمال الطبي مثّل بدوره سلاحًا قاتلًا بيد إدارة السجون. فقد روى الأسرى أن الجرحى والمرضى يُتركون دون علاج، وأن البعض مات أمام أعينهم بسبب نزيف أو التهابات لم يُقدَّم لهم أي إسعاف بشأنها. جرى بتر أطراف داخل السجون نتيجة ترك الجروح تتعفّن عمدًا، فيما خرج كثيرون بإعاقات دائمة أو على كراسٍ متحركة. الطبيعة الممنهجة لهذا الإهمال تجعل منه أكثر من مجرد تقصير إداري؛ إنه شكلٌ من أشكال القتل غير المباشر.

سياسة التجويع والتنكيل لم تكن أقلّ قسوة. فالأسرى تلقّوا وجبات لا تكفي حتى لطفلٍ صغير، وغالبًا ما كانت غير صالحة للأكل. واعتُبر الحرمان من الطعام وسيلة لإذلالهم وتدمير قوتهم الجسدية والمعنوية. في الأيام الأخيرة قبل الإفراج، ضُرب معظمهم لساعاتٍ طويلة، فخرجوا بأجسادٍ متورّمة وجروحٍ مفتوحة، غير قادرين على السير أو الكلام. وهكذا شكّلت السجون الإسرائيلية مسرحًا لسياسة منظمة تستهدف كسر روح المقاومة وإرغام الأسرى على الخضوع.

هذه الممارسات تمثل خرقًا فاضحًا للقانون الدولي الإنساني بكل معاييره. فالمادة الثالثة المشتركة بين اتفاقيات جنيف الأربع تحظر التعذيب والمعاملة القاسية، وهو ما تنتهكه إسرائيل عبر الضرب والإهمال الطبي والتجويع. كما تخرق المادة (13) من اتفاقية جنيف الثالثة التي تلزم بمعاملة الأسرى معاملة إنسانية، في حين تمارس سلطات الاحتلال الإهانات والاعتداءات المتكررة عليهم. كذلك تُنتهك المادة (32) من اتفاقية جنيف الرابعة التي تحظر التعذيب البدني والنفسي، فيما الإهمال الطبي والعزل الانفرادي يشكلان وسيلتين منظمتين للعقاب. أما اتفاقية مناهضة التعذيب لعام 1984، التي تجرّم التعذيب في كل الظروف، فتكشف إسرائيل بعنفها المستمر استهتارًا تامًا بالتزاماتها الدولية، ورفضًا للمساءلة أو المحاسبة.

إن ما جرى للأسرى الفلسطينيين ليس أحداثًا متفرقة أو ممارسات فردية، بل سياسة مؤسسية تنسجم مع نهج الاحتلال القائم على العقاب الجماعي. هي محاولة لإعادة إنتاج السيطرة عبر كسر الإنسان الفلسطيني وتحويله إلى شاهدٍ على ألمه، لا فاعلٍ في حريته. ومع ذلك، فإن روايات الأسرى المحررين تثبت أن السجن لم يقتل فيهم إرادة الصمود، بل حوّلهم إلى ضميرٍ حيّ يفضح جرائم الاحتلال أمام العالم.

من هنا، تبرز الحاجة إلى تحركٍ قانوني وإنساني عاجل. فالمطلوب فتح تحقيق دولي مستقل في جرائم التعذيب والإهمال الطبي داخل السجون الإسرائيلية، وإرسال بعثة تقصّي حقائق من مجلس حقوق الإنسان لتوثيق الانتهاكات. كما يجب تمكين المنظمات الحقوقية واللجنة الدولية للصليب الأحمر من الوصول الكامل إلى المعتقلين دون قيود. ومن الضروري أن تُقدَّم ملفات قانونية موثّقة إلى المحكمة الجنائية الدولية لملاحقة مرتكبي هذه الجرائم باعتبارها جرائم حرب وفق المادة (8) من نظام روما الأساسي. إلى جانب ذلك، تقع على عاتق المؤسسات الفلسطينية والمنظمات الإنسانية مسؤولية توفير الدعم النفسي والطبي والاجتماعي للأسرى المحررين، لضمان إعادة تأهيلهم واستعادتهم لحقوقهم وحياتهم بكرامة.

في النهاية، تُظهر قضية الأسرى الفلسطينيين أن الاحتلال لا يكتفي بسلب الأرض، بل يسعى إلى تحطيم الإنسان. غير أن تجربة "طوفان الأحرار" أثبتت أن إرادة الحرية أقوى من القيود، وأن الجريمة مهما طال عمرها لا تسقط بالتقادم. فالأسرى المحررون اليوم هم شهادة حيّة على صمودٍ لا يُقهر، ونداء للعالم كي لا يصمت أمام نظامٍ يحوّل السجون إلى مختبرٍ للانتقام الجماعي.


الكاتب: غرفة التحرير




روزنامة المحور