الخميس 11 أيلول , 2025 02:12

غزّة؛ فيتنام إسرائيل

جانب من الدمار في غزة

غزّة اليوم ليست مجرّد جغرافيا، بل استعارة تاريخيّة؛ تزداد شهرة يومًا بعد يوم باسم «فيتنام إسرائيل». فمنذ الأيام الأولى للحرب، حينما وعد جيش الاحتلال بتدمير حماس خلال أيام قليلة، وإلى اليوم وقد مرّت شهور ولم ينهَرِ المُقاوِمون، بل ازداد تماسكهم، عادت المقارنة بالتجربة المريرة لفيتنام بالنسبة لأمريكا إلى الواجهة. كثير من وسائل الإعلام العالميّة، من هآرتس وتايمز أوف إسرائيل إلى ميدل إيست آي، كتبت أنّ هذه الحرب قد تكون الكابوس نفسه الذي أركع أمريكا في جنوب شرق آسيا قبل نصف قرن. والسؤال المهم: لماذا يترسّخ هذا التشبيه؟ وكيف أصبحت غزّة فيتنام إسرائيل؟

منطق الحروب غير المتكافئة ومأزق القوى الكبرى

طبيعة حرب غزّة تدلّ قبل كل شيء على خصائص الحروب غير المتكافئة. في مثل هذه المعارك، تقف قوّة كبرى ومجهّزة في مواجهة مجموعة صغيرة ولكن مُصمِّمة. القوّة العسكريّة المعتمدة على الطائرات الحربيّة والدبابات والتكنولوجيا المتقدّمة، تقابلها إرادة شعوب سلاحها الوحيد الإيمان والمرونة وتكتيكات حرب العصابات. والتاريخ أثبت مرارًا أنّ النصر العسكري الحاسم في مثل هذه المواجهات شبه مستحيل. فرنسا في الجزائر، الاتحاد السوفيتي في أفغانستان، والولايات المتحدة في فيتنام ثم في أفغانستان، جميعها واجهت المشكلة نفسها. وإسرائيل اليوم تسير على الطريق ذاته. فكلّما اتسعت دائرة القصف وازداد قتل المدنيين، ازدادت عزيمة الفلسطينيين رسوخًا، وكلّ هجوم إسرائيلي لا يُحطّم الروح المعنويّة، بل يزيد المقاومة تماسكًا.

الحرب الحضريّة؛ أنفاق وأزقّة ابتلعت الجيش

غزّة في مواجهة آلة الحرب الإسرائيليّة تُشبه فيتنام في مواجهة أمريكا. فإسرائيل دخلت الحرب معتمدة على تفوّقها الجوّي والتكنولوجي، لكنّها سرعان ما اكتشفت أنّ ميدان الحرب الحضريّة له منطق آخر. الأزقّة الضيّقة، البيوت المتلاصقة، الأنفاق تحت الأرض والشبكات المعقّدة من الخنادق، دفعت جيش الاحتلال إلى كابوس بلا نهاية. كل تقدّم يكلّف خسائر فادحة، وكل تراجع يقابله هجوم جديد من فصائل المقاومة. مسؤولون في الموساد والشاباك حذّروا صراحةً من أنّ الحرب الحضريّة في غزّة قد تكون التجربة الفيتناميّة نفسها بالنسبة للجيش الإسرائيلي؛ حرب استنزاف تُغرق الآلة العسكريّة في مستنقع. وكما حيّرت أنفاق الفيتكونغ الجيش الأمريكي، صارت أنفاق حماس اليوم رمزًا لعجز إسرائيل عن فرض السيطرة الكاملة على غزّة.

انهيار أسطورة الجيش الذي لا يُقهَر

من أبرز إنجازات المقاومة الفلسطينيّة انهيار أسطورة «الجيش الذي لا يُقهَر». لعقود روّجت الدعاية الرسميّة والإعلام الإسرائيلي أنّ الجيش هو الأقوى في المنطقة وقادر على الحسم وإزالة أي تهديد بسرعة قياسيّة. لكنّ صور الجنود الجرحى، الدبابات المحترقة، والعمليّات الفاشلة، دمّرت هذه الأسطورة. شبكات التواصل الاجتماعي تؤدّي دورًا مضاعفًا؛ فكل فيديو وصورة عن هزائم جيش الاحتلال تنتشر بسرعة في العالم وتُحطّم الصورة التي بناها عبر السنين في لحظة.

الكارثة الإنسانيّة وتكرار صور فيتنام

ما جرح الضمير العالمي أكثر من أي شيء آخر هو حجم الكارثة الإنسانيّة في غزّة. آلاف المدنيين، ومعظمهم نساء وأطفال، قُتلوا. المستشفيات والمدارس تعرّضت للقصف، ومئات الآلاف نزحوا من بيوتهم. الحصول على الماء والغذاء والدواء أصبح شبه مستحيل، والأزمة الإنسانيّة بلغت حدّ الكارثة. هذه المشاهد تعيد إلى الأذهان صور حرب فيتنام الشهيرة؛ الأطفال الذين يركضون وسط النيران والقرى التي تحوّلت رمادًا تحت القصف. وكما فجّرت تلك الصور موجة احتجاجات عالميّة ضد أمريكا، تحوّلت غزّة اليوم إلى قضية عالميّة تدفع الملايين للمطالبة بوقف جرائم إسرائيل. ضغط الرأي العام لم يطعن في شرعيّة إسرائيل فحسب، بل وضع الحكومات الغربيّة نفسها في مأزق.

أزمة داخلية في إسرائيل؛ السياسة والاقتصاد والاحتجاجات

في الداخل، تتعمّق الانقسامات الاجتماعيّة والسياسيّة يومًا بعد يوم. الاقتصاد الإسرائيلي انهار تحت ضغط حرب الاستنزاف. النفقات العسكريّة الهائلة، الركود في سوق العمل، توقّف الاستثمارات وانهيار السياحة ليست سوى جزء من التداعيات. عائلات الجنود القتلى تخرج إلى الشوارع، والاحتجاجات ضد حكومة نتنياهو تتصاعد. رئيس الوزراء الذي حوّل الحرب إلى أداة للبقاء في السلطة يواجه أزمة ثقة داخليّة. المشهد يذكّر بمرحلة حرب فيتنام في أمريكا؛ حيث أجبرت موجة احتجاجات شعبيّة ومعارضة سياسيّة واشنطن على الانسحاب.

العزلة الدوليّة وسقوط الشرعيّة العالميّة

على المستوى الدولي تضرّرت مكانة إسرائيل بشدّة. فالنظام الذي كان يقدّم نفسه كجزء من العالم المتقدّم وحليف للغرب، أصبح اليوم أكثر عزلة من أي وقت مضى. الحلفاء الأوروبيّون وحتى الولايات المتحدة، تحت ضغط الرأي العام والمنظّمات الحقوقيّة، يُضطرّون لاتخاذ مواقف نقديّة. ويعود التشبيه مجددًا بأمريكا بعد حرب فيتنام؛ فكما شوّهت الهزيمة في فيتنام صورة أمريكا عالميًا، دمّرت حرب غزّة سمعة إسرائيل. وباتت إسرائيل في نظر المراقبين ليست قوّة لا تُقهَر بل كيان مأزوم أمام مجموعة صغيرة من المقاومين. وقد حذر وزير التعاون الإقليمي ديفيد أمسالم في  اجتماع لحكومة العدو بأن القطاع قد يتحول الى "فيتنام إسرائيل".     

محور المقاومة وتغيير المعادلات الإقليميّة

من جهة أخرى، استطاعت غزّة أن تُثبّت نفسها مركزًا لمحور المقاومة. حزب الله بعمليّاته على الحدود، أنصار الله بعمليّاتهم البحريّة، والمقاومة العراقيّة بضغطها العسكري، جميعهم وضعوا إسرائيل في حصار غير مسبوق. هذا يبرهن أنّ حرب غزّة لم تعد مجرّد مواجهة محليّة، بل جزء من معادلة كبرى تغيّر كامل الجغرافيا السياسيّة للشرق الأوسط. وكما ألهمت فيتنام الحركات المناهضة للاستعمار في القرن العشرين، تُلهم المقاومة الفلسطينيّة اليوم الشعوب التي تواجه الهيمنة.

مستقبل غامض؛ سيناريوهات محتملة لإسرائيل

المستقبل الإسرائيلي يبدو أكثر غموضًا من أي وقت. السيناريو الأوّل هو استمرار حرب الاستنزاف؛ مسار يزيد التكاليف العسكريّة والإنسانيّة والسياسيّة ويُغرق إسرائيل أكثر في المستنقع. السيناريو الثاني هو التراجع القسري والاعتراف بالهزيمة؛ نتيجة قد تُفرض على إسرائيل عاجلًا أو آجلًا كما فُرضت على أمريكا في فيتنام. السيناريو الثالث هو تغيير النهج السياسي والدخول في مسار تسويات محدودة، لكنّ اليمين المتطرّف في حكومة تل أبيب هو العقبة الأساسيّة. في جميع الأحوال، استمرار الوضع يعني تآكل إسرائيل تدريجيًا وفقدان موقعها الاستراتيجي في المنطقة.

الخلاصة: غزّة كـ "فيتنام إسرائيل"

استعارة «فيتنام إسرائيل» ليست مبالغة صحفيّة، بل صورة دقيقة للواقع الجاري. جيش اعتبر نفسه لا يُقهَر أصبح اليوم أسير إرادة شعب. مجتمع رأى نفسه حليفًا للغرب غرق في عزلة دوليّة. ونظام بنى شرعيّته على أسطورة القوّة أصبح أقرب من أي وقت للسقوط. وكما شكّلت فيتنام نهاية لعصر الهيمنة الأمريكيّة المطلقة، قد تكون غزّة نقطة تحوّل في نهاية أسطورة إسرائيل. المستقبل غامض، لكنّ أمرًا واحدًا واضح: لا احتلال يمكنه أن يغلب إرادة شعب إلى الأبد.


المصدر: كاتبة إيرانية

الكاتب: فاطمه کاوند




روزنامة المحور