الأربعاء 27 آب , 2025 04:24

أولوية لبنان: استعادة السيادة الوطنية

الوزير الأمريكي مايك بومبيو خلال انتظاره وصول الرئيس اللبناني العماد ميشال عون

لقد عانى الشعب اللبناني لعقود، من الأزمات والحروب والتدخلات الخارجية والانقسامات الداخلية المُستغلة من قبل القوى الخارجية، فتحوّل وطننا إلى ساحة صراع لصراعات الآخرين، وملعبًا للقوى الإقليمية والدولية الساعية إلى النفوذ، وهذا لا ينحصر في مدة زمنية واحدة بل يمكن الجزم بأن هذا الأمر كان منذ ما قبل إنشاء دولة لبنان الكبير عام 1920. ولهذا فالدولة اللبنانية، التي أضعفها الفساد والتبعية الخارجية المزمنة لبعض الجهات والأحزاب، فقدت تدريجياً سيادتها - الركيزة الأساسية التي يجب أن يُبنى عليها أي مشروع وطني.

وفي هذه اللحظة المصيرية، حيث يقف لبنان على مفترق طرق بين الانهيار التام وإمكانية النهوض، من الضروري التأكيد على مبدأ أساسي: لا يمكن معالجة أي قضية داخلية استراتيجية، بما في ذلك مسألة سلاح المقاومة، بطريقة مشروعة وشاملة ومستدامة دون استعادة لبنان لسيادته أولًا.

وهذا المبدأ وطرحه في هذا الوقت، ليس مسألة مناورة سياسية، بل مسألة بقاء. لأن السيادة هي أساس الدولة. وبدون ذلك، فإن أي نقاش وطني سيكون أجوفاً، مشوهاً بفعل الضغوط الخارجية، وغير قادر على إنتاج نتائج تعكس حقاً إرادة ومصالح الشعب اللبناني.

مسؤول أمريكي لزميله: لا يمكننا أن نخرج أنفسنا من شؤون لبنان الداخلية

وكشف مساعد وزير الخارجية الأمريكية للشؤون السياسية الأسبق دايفد هيل في كتابه "الدبلوماسية الأمريكية تجاه لبنان"، كيف أن بعض القوى اللبنانية – خاصةً التابعة للنفوذ الأمريكي – كانت تحرّص على تدخّل وإشراك واشنطن في القضايا الداخلية. ففي التمهيد لكتابه (ص 8 وص9) قال هيل الذي تولى أيضاً منصب سفير بلاده في لبنان (2013 – 2015): "لقد اعتادت كل فئة لبنانية أن تستَغِل، وتُستَغَلّ من قبل القوى الخارجية، حرصت على أن تكون لها علاقاتها الخاصة مع سفارات القوى العظمى. في تلك المرحلة بعد الحرب الأهلية مباشرة، كان الاتصال بوزارة الخارجية اللبنانية مجرد علاقة من علاقات لا تحصى ولا تعد حافظت عليها سفارتنا مع صناع القرار اللبنانيين، كانت تلك العلاقة أبعد ما يكون عن كونها الأكثر أهمية بين علاقاتنا، إنها حقيقة محزنة بالنسبة إلى الدبلوماسيين اللبنانيين الموهوبين، الذين كانوا يمثلون دولة عاجزة، وليس بالضرورة ممن كانوا يمثلون قادة الفصائل النافذة في البلد.

في البداية، أربكني هذا الوضع. ومع تخفيف الإجراءات الأمنية، بقي سفيرنا سجينا (سفير الولايات المتحدة الأمريكية في لبنان ريان كروكر بين عامي 1990 و1994)، لكن سمح لي بالذهاب لمقابلة اللاعبين اللبنانيين. يبدو أن الاهتمام قليل في لبنان بما يحدث بعيدا من مأدبة متقنة، لذلك غالبا ما تلازمت الاجتماعات مع غداء أو عشاء لذيذ وطويل. لقد وجدت محاوري اللبنانيين فضوليين للغاية بشأن الموقف الأميركي من الأحداث اللبنانية الجارية، وقد ركزوا على أول انتخابات برلمانية منذ سنة ۱۹۷۲، كان المسيحيون يتساءلون ما إذا كان من الأفضل مقاطعة الانتخابات، أو المشاركة فيها اعتراضا على الهيمنة السورية على البلد وعلى العملية الانتخابية. تطورت أسئلة مضيفي على مدار الوجبات إلى مطالب المعرفة ما إذا كانت الولايات المتحدة تريد منهم المشاركة أم المقاطعة، حتى يعرفوا أين يقفون منا عند اتخاذهم القرار.

لم تكن مهامي السابقة في المملكة العربية السعودية والبحرين وتونس والأردن قد أعدتني لهذه اللقاءات لم يسألني أحد في تلك البلدان قط عما يجب عليهم فعله؛ إذ بدوا فيها مهتمين فقط بإخباري بما ينبغي على الولايات المتحدة أن تفعله عادة بشأن الإسرائيليين والفلسطينيين. لقد أذهلتني مطالبة كبار السياسيين اللبنانيين الدبلوماسية الأميركية تجاه لبنان للحصول على آراء ونصائح حول شؤون لبنان الداخلية، فقررت عدم الإجابة، ولم يؤد هذا إلا إلى إرباك اللبنانيين، الذين أرادوا أن يلمسوا النيات الأميركية بشكل واضح. فالإجابات الغامضة لمستشار سياسي غير ناضج يمكن أن تعقد الأمور، أو حتى تعكس وجود خطة أميركية ملتوية إن كانت غير واضحة.

بعد جلسات عدة على هذا المنوال، لا بد أن الأمر وصل إلى كروكر، الذي أوضح لي أنه سواء أحببنا أم لم نحب ذلك، لا يمكننا أن نخرج أنفسنا من شؤون لبنان الداخلية".

مسح السيادة يجل لبنان هشاً

لقد أثبت لنا التاريخ أنه كلما مُسِحت السيادة، أصبح لبنان ساحة هشة تتفاقم فيها الصراعات الداخلية بفعل التدخلات الخارجية. فمنذ سنوات الحروب الأهلية (1958 و1975)، إلى ما تبعها وصولاً للعام 2004 ما تخلّله من تدخل مكثّف للقوى الإقليمية والدولية في حياتنا السياسية اليومية، قد دفعنا ثمن حرماننا من السيادة، الكثير من التشرذم الداخلي والتوترات والصراعات، حتى باتت القوى الخارجية لاعباً أساسياً في حياتنا السياسية: الانتخابات الرئاسية، والتشكيلات الحكومية، والانتخابات النيابية، وغيرها الكثير من شؤون السياسة الداخلية والخارجية.

إلا أن المرحلة الأشد خطورة، هي مرحلة ما بعد معركة أولي البأس 2024، حيث باتت تُملى علينا مباشرةً، أوامر الوصاية الأمريكية والسعودية، بحيث لم يعد ينجو أي قرار رئيسي من الضغوط الخارجية، من انتخابات الرئاسة وتكليف رئيس الحكومة وتشكيلها الى التعيينات الأمنية والإدارية وغيرها.

وفي مثل هذه الظروف، يُعدّ طرح مسألة سلاح المقاومة هو تكريس لفقداننا السيادة الوطنية أمام الوصاية الأمريكية والسعودية، لأن هذا الطرح يخدم المصالح الخارجية حصراً ويخدم مصلحة عدو لبنان في الدستور أي إسرائيل.

السيادة الوطنية هي المسار الوحيد لحلّ كل القضايا ومنها سلاح المقاومة

بمجرد ترسيخ السيادة الوطنية، سيتمكن اللبنانيون من الانخراط في حوار وطني متحرر من الإملاءات الخارجية. وفي هذا الحوار، تُطرح جميع وجهات النظر المتعلقة بسلاح المقاومة بصراحة، بهدف إيجاد صيغة توافقية تحترم التضحيات، وتراعي مخاوف مختلف الطوائف، وتدمج القدرات الدفاعية ضمن استراتيجية وطنية موحدة، تضمن حماية لبنان من العدوان الخارجي دون الانجرار إلى صراعات خارجية.

رسالة واضحة إلى الدولة اللبنانية

أما للدولة اللبنانية ومن يقودها اليوم، فإن الرسالة واضحة: لا تنشغلوا بنقاشات لا حل لها في غياب السيادة من تدخلات الخارج، وخاصة من لا يريدوا قيامة لبنان القوي والسيّد والمستقل. ففي كل مرة تُثار فيها مسألة سلاح حزب الله تحت ضغط خارجي، لا يؤدي ذلك إلا إلى تقسيم اللبنانيين وإضعاف الدولة. وفي كل مرة تستغل فيها الجهات الدولية هذه القضية، تُؤخر ظهور توافق وطني حقيقي.

لذلك، يجب على الدولة أن تُعلي من شأن السيادة فوق كل اعتبار. عليها استعادة صنع القرار من أيادٍ خارجية. عليها أن تستعيد ثقة مواطنيها بإثبات قدرتها على التصرف باستقلالية وبما يخدم المصلحة الوطنية. عندها فقط ستمتلك الشرعية والقوة لاستضافة حوار وطني جاد حول أي قضية، بما في ذلك سلاح المقاومة.

ولعلّ التذكير ببعض الحالات التي أظهر فيها رؤساء الجمهورية جوهر السيادة الوطنية مفيد، لأن التاريخ لا ينسى وبعض المواقف على بساطتها تعكس جوهراً وطنياً كبيراً، مثل حادثة التي حصلت في عهد الرئيس العماد إميل لحود عندما أغلق الهاتف في وجه وزيرة الخارجية الأمريكية مادلين أولبرايت، عند تحرير لبنان عام 2000، أو خلال ولاية الرئيس العماد ميشال عون الذي أرغم وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو على انتظاره واقفاً!


الكاتب: غرفة التحرير




روزنامة المحور