يُنظر اليوم إلى إيران على أنها واحدة من أكثر القوى الإقليمية تقدماً في مجال الصناعات الصاروخية، وهو تطور لم يحدث بين ليلة وضحاها، بل جاء نتيجة مسار طويل بدأ من نقطة الصفر، في سياق حرب قاسية وظروف شبه مستحيلة. فخلال الحرب المفروضة على إيران (1980–1988) -الحرب العراقية الإيرانية-، حين واجهت الجمهورية الإسلامية آلة صدام حسين الإجرامية المدعومة غربياً وخليجياً والتي ارتكبت المجازر بحق الشعب الإيراني لاسيما الأطفال والنساء حيث كانت تستهدف المناطق المدنية دون تفريق، لم يكن لدى إيران أي بنية دفاعية صاروخية متماسكة. ومع ذلك، ومن أبسط المقومات والمعدات، بدأت معالم مشروع وطني دفاعي تتشكل تدريجياً، حتى بات اليوم عنصراً استراتيجياً فاعلاً في التوازنات العسكرية والسياسية للمنطقة.
البدايات: الحاجة أمّ الابتكار
مع اندلاع الحرب العراقية الإيرانية، وبدء موجات القصف الممنهج على المدن الإيرانية، برزت حاجة ملحة لامتلاك وسيلة ردع تكبح عدوان صدام، خصوصاً أن القوات الإيرانية كانت في طور إعادة التأسيس بعد الثورة الإسلامية. في ظل هذا النقص الدفاعي، ظهر حرس الثورة الإسلامية كلاعب جديد يتولى مهام الردع والدفاع في آنٍ واحد، مستخدماً إمكانات بدائية ومعدات بسيطة.
من أوائل الصواريخ التي استخدمتها إيران في الحرب كان صاروخاً ليبياً وصل مع وفد عسكري ليبي ليدير عملية إطلاقه. غير أن الإيرانيين، الذين اكتشفوا أن النظام المعتمد في العملية لم يكن دقيقاً وأن الجانب الليبي تصرف وفق مصالحه الخاصة، قرروا استبعاد أي إشراف أجنبي وإدارة إطلاق الصواريخ بأنفسهم، رغم قلة الخبرة وتعقيد التكنولوجيا.
كانت المحاولة الأولى فاشلة. لم ينطلق الصاروخ كما هو متوقع، وبدت المهمة شبه مستحيلة. لكن بدل الاستسلام، اتخذ الإيرانيون قراراً استراتيجياً بعدم الاعتماد على الخارج، والبدء في تعديل الأنظمة الصاروخية محلياً، والعمل على تطوير نماذجهم الخاصة باستخدام ما توفر من قطع محلية ومعرفة ذاتية.
لا يمكن الحديث عن المشروع الصاروخي الإيراني دون الوقوف عند شخصية العميد حسن طهراني مقدم، الذي يُعرف في الأوساط الإيرانية بلقب "أب الصواريخ الإيرانية". منذ الأيام الأولى لانتصار الثورة الإسلامية، أدرك العميد طهراني أهمية امتلاك قدرة صاروخية مستقلة كوسيلة لحماية السيادة وردع التهديدات. في زمن كانت فيه إيران خارجة من حرب مدمّرة، ومعزولة تقنياً، بدأ طهراني مقدم من الصفر، يعمل بهدوء في المختبرات، ويقود فرقاً من المهندسين الشباب.
استثمر في بناء مدن صاروخية تحت الأرض، وطور نماذج أولية لصواريخ قصيرة المدى تحوّلت لاحقاً إلى منظومات معقّدة ومتعددة الاستخدامات.
الاستراتيجية العقائدية: عقيدة الاعتماد على الذات
كان قرار تطوير برنامج صاروخي وطني يحمل أبعاداً سياسية وفكرية لا تقل أهمية عن بعدها العسكري. فقد جاء القرار نتيجة فلسفة مستقرة في العقل الإيراني الثوري، تقوم على رفض التبعية، والإيمان بقدرة الفرد الإيراني على تخطي المستحيل. هذه العقيدة تشكلت في ضوء خطابات الإمام الخميني بعد انتصار الثورة الإسلامية في إيران، الذي أكد مراراً أن بناء الأمة لا يمكن أن يتحقق عبر استيراد السلاح أو المعرفة، بل من خلال الاستثمار في العقول المحلية. وكان يمثل حالة روحية فريدة تبث العزم في الشباب لتحمل مسؤولياتهم تجاه وطنهم وحثهم على الابتكار والخروج من الدائرة الضيقة التي يفرضها الآخرون من خلال الحصار الاقتصادي أو العقوبات على الجمهورية الإسلامية.
وكذلك كان خليفة الإمام الخميني السيد القائد علي الخامنئي حيث عزز هذا النهج ورسخه، فكان يتابع شخصياً المشاريع الصناعية والعسكرية، ويصرّ على فكرة "الاعتماد على الذات"، ويحث الحرس الثوري على عدم الاكتفاء بما هو موجود، بل السعي المستمر نحو التطوير. لم يكن هذا مجرد شعار، بل تحول إلى سياسات عملية تُنفّذ ميدانياً في المراكز العسكرية ومخابر التصنيع.
العقلية الميدانية: التدريب والانضباط وتعلّم الدروس
على المستوى التنفيذي، تبنّى حرس الثورة الإسلامية عقلية تقوم على التدريب المستمر والجاهزية الدائمة، حتى في أشد لحظات الحرب. كانت هناك قناعة راسخة بأن الردع لا يتحقق بالسلاح فقط، بل أيضاً بالتحضير البدني والنفسي الجيد والجهوزية لتنفيذ أي مهمة مهما كانت صعوبتها.
حين قرر قادة الحرس البدء في تعديل الصاروخ الليبي الأول، لم يكن هدفهم بحسب قولهم الوصول إلى الكيان الإسرائيلي لأن هذه المسافة تعد بعيدة نسبياً عن إيران، بل ببساطة إلى بغداد، لردع صدام. لكنهم أيقنوا أن امتلاك صاروخ يردع عدو ما، سيفتح الباب حتماً لصناعة صواريخ تردع كل الأعداء حتى لو كانت المسافة بعيدة.
فشلت عدة محاولات أولى سواء في تصنيع الصواريخ أو الطائرات، وتعرض المشروع لاستخفاف من قبل الخبراء الأجانب الذين شككوا في قدرة بلد محاصر ومنهك اقتصادياً على بلوغ هذا المستوى من التصنيع. لكن السنوات أثبتت العكس.
نقلات استراتيجية: من صواريخ قصيرة المدى إلى الباليستية
مع نهاية الحرب، لم يتوقف المشروع الصاروخي الإيراني. بل استُخدمت دروس الحرب كأساس لصياغة عقيدة ردع جديدة، تقوم على تطوير صواريخ قصيرة، متوسطة، ثم بعيدة المدى. بدأت إيران بتعديل صواريخ سكود، ثم انتقلت إلى تصنيع نسخها الخاصة مثل "شهاب-1"، ثم "شهاب-3" الذي يبلغ مداه 1300 كلم. لاحقاً، طوّرت صواريخ مثل "قدر"، "سجيل"، "خرمشهر"، و"عماد"، وهي صواريخ قادرة على إصابة أهداف في عمق الكيان الإسرائيلي.
وقد أثارت المدن الصاروخية الإيرانية التي كُشف عنها في السنوات الأخيرة دهشة الخصوم والحلفاء على السواء، لما تحتويه من مخازن تحت الأرض، ومنصات متحركة، وأنظمة إطلاق آلية ويدوية، في مشهد يوحي بأن الجمهورية الإسلامية بنت بنيتها الردعية بعيداً عن أي معونة خارجية.
الصواريخ الفرط صوتية: قفزة استراتيجية
أعلنت إيران في حزيران/يونيو 2023 عن تطوير أول صاروخ فرط صوتي باسم "فتاح"، لتدخل بذلك نادياً عالمياً ضيقاً يضم دولاً مثل روسيا والصين والولايات المتحدة. هذه الفئة من الصواريخ، التي تتجاوز سرعتها خمسة أضعاف سرعة الصوت، تمتاز بقدرتها على المناورة والتفلت من أنظمة الدفاع الجوي، بما فيها منظومات مثل "القبة الحديدية" و"باتريوت" و"آرو".
الصاروخ "فتاح 1"، الذي كشفت عنه قوات الجوفضاء التابعة لحرس الثورة الإسلامية، يجمع بين سرعة خارقة، ودقة إصابة عالية، وقدرة على التحليق داخل وخارج الغلاف الجوي، ما يجعل اعتراضه شبه مستحيل. ثم لحقت به نسخة أكثر تطوراً، "فتاح 2"، بمدى ودقة أعلى، ومثّل هذا التطور تحولاً نوعياً في قدرات الردع الإيرانية.
والأهم أن إيران لا تُنتج هذه الصواريخ كنسخ مقلّدة، بل عبر تصميمات محلية ومواد مركبة متطورة.
العوامل المحورية لهذا التطور
لا يمكن فهم هذا التطور السريع بمعزل عن العوامل التالية:
-القيادة العقائدية والرؤية الثابتة: تمسك النظام الإيراني بنهج الثورة ورفض التبعية، وتبني فكرة السيادة التقنية.
-الإيمان بالطاقات المحلية: لم تلجأ إيران إلى شراء ما هو جاهز، بل صنعت أدواتها بيدها، واستثمرت في العقول الشابة، والجامعات، والمراكز البحثية. وهذا ما يعبر عنه السيد علي الخامنئي مراراً بأن البرامج العلمية للبلاد وخصوصاً النووية منها صار في عقول الشباب المهندسين والصانعين ولم يعد محصوراً بنطاق محدد ولهذا فشل العدو في استهدافه كلياً ومحوه كما كان يدعي.
-رفض الوصاية الأجنبية: حتى العروض التي جاءت من دول صديقة للمساعدة في تطوير الأنظمة الصاروخية تم التعامل معها بحذر، تفادياً لأي اختراق.
-التراكمية في العمل: لم تتوقف إيران عند نجاح صاروخ معين، بل استمرت في تطوير النسخ وتحسين الدقة والمدى والحمولة. وهذا ما تبين خلال الاستهداف الإيراني لعمق كيان الاحتلال ومراكزه الأمنية والعلمية في حزيران/يونيو 2025. حيث ظهر حجم التطور التقني في الصناعة والوصول إلى الهدف مع هامش خطأ ضئيل.
-الفهم العميق لطبيعة الصراع: إيران أدركت باكراً أن الغرب لا يعارض فقط امتلاكها للسلاح، بل يرفض أي دولة مستقلة تمتلك قرارها السيادي. وهذا ما تبين بعد العدوان الإسرائيلي-الأميركي الأخير على إيران حيث كان أحد أهداف الحرب إسقاط نظام الجمهورية الإسلامية وهذا دليل على سعي أميركا وحليفتها "إسرائيل" لضرب هذا النموذج الواعي الذي فهم كيف يتعامل مع النفوذ الأميركي وجبروته ورفض الاستجابة له ولإملاءاته التي كانت ستقوض جهود إيران كما أي دولة بسطت فيها أميركا نفوذها واتخذتها رهينة لها.
النتيجة اليوم: صواريخ تردع وتوازن وتربك
اليوم، لم تعد إيران تحتاج إلى إثبات وجودها الصاروخي. يكفي أن تقوم برد محدود كما حصل بعد اغتيال قائد قوة القدس الجنرال قاسم سليماني في قاعدة "عين الأسد" الأميركية، أو في الرد على قصف القنصلية الإيرانية في دمشق عبر عملية الوعد الصادق 1، حتى تدرك الأطراف المعادية أن أي مغامرة عسكرية ضد إيران قد تتطور إلى مواجهة لا يمكن احتواؤها. وأثبتت الحرب التي شنها الكيان على إيران واستمرت لمدة 12 يوم أنه لا يمكن الدخول بحرب فعلية ضد إيران لأنها دولة مقتدرة لديها نظام وترسانة صاروخية ضخمة وحسابات الحرب معها مختلفة لهذا عملت أميركا جاهدة لتوقيف هذه الحرب نظراً للأضرار الجسيمة التي تكبدتها "إسرائيل" والدمار الهائل.
الصواريخ الإيرانية أيضاً شكلت أساس القوة لحركات المقاومة في المنطقة حيث سعت إيران لتصدير هذه الصواريخ إلى الحلفاء في محور المقاومة، من لبنان إلى اليمن إلى غزة. وهكذا، لم تعد هذه الصواريخ دفاعاً عن إيران فقط، بل أصبحت جزءاً من عقيدة الردع الشامل التي تغيّر معادلات المنطقة. وتشكل رادعاً للكيان الإسرائيلي.
المشروع الصاروخي كمعيار استقلال وسيادة
يمكن القول إن ما وصلت إليه إيران في مجال الصناعات الصاروخية ليس مجرد تفوق تقني، بل تعبير عن إرادة سياسية وسيادية رافضة للخضوع. في عالم تحكمه التبعية والتفوق الغربي، استطاعت دولة محاصرة أن تبني قوة تضعها في مصاف الدول المؤثرة استراتيجياً.
هذا التحوّل لا يمكن قراءته بوصفه مجرد تطور عسكري، بل كمؤشر على صعود قوة إقليمية صاغت أمنها القومي بمنهج مستقل، بعيداً عن المظلات الغربية. فإيران اليوم، من خلال مشروعها الصاروخي، لم تعد تسعى فقط إلى الردع، بل باتت تملك ورقة استراتيجية تغيّر قواعد الاشتباك، وتفرض معادلات ردع جديدة في المنطقة. وهذا المشروع، الذي أُسس على تجربة المقاومة والاعتماد على الذات، أصبح تهديداً وجودياً حقيقياً للكيان، كما يعترف بذلك كبار قادة الاحتلال الذين يرون في أي مواجهة مقبلة مع إيران تهديداً بنيوياً يفوق قدرتهم على الاحتمال أو المناورة.
الكاتب: غرفة التحرير