يظهر في الآونة الأخيرة ومن خلال الخطاب الأميركي الإسرائيلي محاولات متقدمة تهدف إلى إحياء "اتفاقيات أبراهام"، وبحسب مقال نشره موقع "ذا ناشيونال انترست" وترجمه موقع الخنادق الإلكتروني، يتضح كيف تحوّلت عملية التطبيع إلى أداة مركزية في المشروع الصهيوني لإعادة تشكيل البيئة الإقليمية بما يخدم مصالح "إسرائيل" الأمنية والاقتصادية والتوسعية. فالتطبيع، وفق هذا الخطاب، لم يعد مجرد خيار تكتيكي لتحسين العلاقات الثنائية، بل بات يُقدَّم كشرط لازم "لاستقرار المنطقة وازدهارها"، وكمدخل لتثبيت الكيان كقوة شرعية لا يمكن تجاوزها في النظام الإقليمي. من هنا، ويبرز بوضوح في سياق المقال كيف أن هذا التصوّر هو محاولة لفرض الهيمنة الإسرائيلية على حساب قضايا الشعوب، وفي مقدمتها القضية الفلسطينية. كما يظهر كيف توظّف تل أبيب هذا المسار كغطاء للهروب من أزماتها الداخلية والعزلة الدولية، معتمدةً على أدوات أميركية ودعاية سياسية تضغط على الأنظمة وتهمّش صوت الشارع. ويطرح فكرة تقديم "أفق سياسي" للفلسطينيين كأداة تكتيكية لتعزيز تقبل "إسرائيل" والتقرب منها.
النص المترجم:
يحتاج التطبيع الإسرائيلي-العربي إلى تعزيز الروابط بين الشعوب، وليس فقط التعاون الأمني، لكي يستمر ويتوسع.
بعد حوالي 21 شهراً من "هجوم" حماس في 7 أكتوبر 2023، يواجه مسار التطبيع بين "إسرائيل" وشركائها العرب تحديات عميقة. ففي حين استمر التعاون العسكري والاستراتيجي إلى حد كبير، وأحياناً ازداد في بعض الحالات، تباطأت الأبعاد المدنية للتطبيع بشكل ملحوظ. اتفاقيات أبراهام، التي كانت تُعتبر إنجازاً تاريخياً، باتت الآن مهددة بالتحول إلى واقع ذو مستويين: طبقة مستقرة، وإن كانت ضمنية، من التعاون الأمني، إلى جانب تراجع المشاركة المدنية.
هذا الانقسام ليس جديداً. فقبل التطبيع الرسمي بوقت طويل، كانت العلاقات الأمنية السرية في كثير من الأحيان هي الأساس الذي قامت عليه علاقات "إسرائيل" مع شركائها في الخليج، ومهدت الطريق للاختراقات الدبلوماسية اللاحقة. لكن هذان المستويان يختلفان في مدى تعرضهما للصدمات الخارجية. فالبعد المدني من التطبيع أكثر تأثراً بتطورات الصراع الإسرائيلي الفلسطيني ويتأثر بشكل كبير بالرأي العام العربي. أما المسار الأمني السري، فيتم دفعه بشكل أساسي بالمصالح الاستراتيجية، مما يجعله أكثر قدرة على الصمود في فترات الاضطراب.
ومع ذلك، ومنذ 7 أكتوبر 2023، فقد انقلب هذا التوازن الهش بشكل حاد. فقد تباطأ التعاون المدني، الذي كان ينمو بشكل مطرد في مجالات مثل السياحة، والأعمال، والتبادلات الثقافية والأكاديمية، أو توقف تماماً. وتوقفت اللقاءات بين كبار المسؤولين الإسرائيليين ونظرائهم في المغرب والبحرين، كما انخفضت مع الإمارات.
توقفت أبرز المبادرات متعددة الأطراف مثل "منتدى النقب"، كما تم تعليق مشاريع مشتركة كان يُعوّل عليها لتثبيت البُعد الاقتصادي للتطبيع، كمنطقة "بوابة الأردن الصناعية" ومشروع "الماء مقابل الطاقة" الثلاثي بين الإمارات والأردن و"إسرائيل". أما "منتدى غاز شرق المتوسط"، الذي كان يُعد منصة للحوار الإقليمي، فلم يعد ينعقد بانتظام، فيما قد يُستكمل العمل بممر الهند-الشرق الأوسط-أوروبا من دون "إسرائيل"، بسبب المخاوف من عدم استقرارها السياسي وتراجع صورتها الدولية بسبب الحرب.
ومع ذلك، فإن صلابة اتفاقات السلام بين "إسرائيل" والدول العربية فاقت توقعات كثيرة، إذ اقتصرت الردود الرسمية على خطوات رمزية، كاستدعاء السفراء أو تعليق بعض الفعاليات الثقافية، دون أن تصل إلى حد تعليق أو إلغاء العلاقات. لا بل تؤكد الأرقام أن التبادل التجاري شهد نمواً ملحوظاً، لا سيما مع الإمارات التي بلغ حجم تبادلها التجاري مع "إسرائيل" 3.3 مليار دولار عام 2024، ارتفاعاً من 3 مليارات في 2023 (باستثناء البرمجيات والصفقات الحكومية المباشرة).
اللافت هو استمرار بل وتوسّع التعاون العسكري، حيث عزز "هجوم" 7 أكتوبر القناعة المشتركة لدى الأنظمة العربية بوجود تهديد إقليمي مصدره فواعل غير دولتية مثل حماس، وامتداده إلى محور تقوده إيران. وبات واضحاً أن سقوط "إسرائيل" أو زعزعة استقرارها من قبل هذه القوى، قد يُهدد استقرار الأنظمة المطبّعة نفسها. ونتيجة لذلك، مثّلت صفقات السلاح إلى الإمارات والبحرين والمغرب نحو 12% من صادرات "إسرائيل" العسكرية عام 2024، بعد أن كانت 3% فقط في 2023. وفي 2025، أي بعد أكثر من عام على اندلاع الحرب، اشترت المغرب مدفعية إسرائيلية، فيما استضافت الإمارات شركات تصنيع سلاح إسرائيلية في معارضها الدفاعية.
مع اقتراب الذكرى الثانية "لهجمات" 7 أكتوبر والذكرى الخامسة لنهج اتفاقيات أبراهام، تجد "إسرائيل" نفسها في مفترق طرق حاسم. فكلما طال أمد الحرب وازداد التصور بأن "إسرائيل" تعرقل التقدم مع الفلسطينيين، أصبح من الأصعب على شركاء الاتفاقيات تبرير استمرار الانخراط، ناهيك عن التوسع فيه. وبدون جهود إسرائيلية متعمدة لمعالجة مصالح شركائها الإقليميين الاستراتيجية، سيكون من الصعب بشكل متزايد عكس حالة التباعد الحالية.
إسرائيل بين التطبيع والتردد
مع تزايد المؤشرات على استعداد رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو لإنهاء الحرب في غزة، قد تصبح المملكة العربية السعودية أكثر مرونة في شروطها للتطبيع، مكتفية بإنهاء الحرب دون الإصرار على تقدم ملموس نحو حل الدولتين. كما أن الصفقة الضخمة الأخيرة لشراء الأسلحة من الولايات المتحدة قد تمنح الرياض بدائل تُغنيها – ولو مؤقتاً – عن المطالبة ببرنامج نووي مدني ومعاهدة دفاع ثنائية مع واشنطن.
الجانب الإسرائيلي ينظر إلى تطبيع العلاقات مع السعودية على أنه اختراق جيو استراتيجي تاريخي، يحمل وعوداً بتوسيع دائرة التطبيع، وتعزيز الحضور الأميركي في المنطقة، وتقييد نفوذ إيران. لكن هذه الفرصة تتطلب قرارات حاسمة من تل أبيب: هل تمضي قدماً في اتفاق ثلاثي مع واشنطن والرياض، بما يحمله من تنازلات سياسية واستراتيجية، أم تراهن على تحولات مستقبلية قد تخفف من كلفة التطبيع؟ في حال اختارت "إسرائيل" الانتظار، فإنها قد تخسر ورقة الضغط الحالية التي تربط بين الدعم الأميركي والتقارب مع السعودية من جهة، وتقديم التنازلات من جهة أخرى. والأسوأ من ذلك، أن تنجح الرياض في انتزاع التزامات نووية وأمنية من واشنطن دون أن تقدم في المقابل أي تطبيع مع "إسرائيل"، وهو سيناريو بالغ الخطورة بالنسبة لتل أبيب.
استراتيجية تطبيع متعددة الأبعاد
من شأن استراتيجية تطبيع متعددة الأبعاد أن توقف أيضاً تآكل اتفاقيات السلام القائمة، وتمكّن "إسرائيل" من تقليص عزلتها الدولية المتزايدة حدّة. كما يمكن أن تُسهم هذه الاستراتيجية في بناء نظام إقليمي أكثر استقراراً وتكاملاً، بما يتماشى مع الرؤية الاستراتيجية لاتفاقيات أبراهام، والهندسة الإقليمية الأوسع التي دعمتها إدارة ترامب.
تعزيز الدعم الشعبي للتطبيع لن يخدم فقط في تقوية متانة اتفاقيات السلام، بل سيساهم أيضاً في "تحسين صورة إسرائيل" في العالم العربي، وليس فقط بين الحكومات والجيوش. وهذا بدوره سيعزز قبولاً إقليمياً أوسع لدور "إسرائيل" في صياغة نظام ما بعد الحرب، ويزيد من استعداد الدول العربية للمشاركة في جهود الاستقرار وإعادة الإعمار، ويُقلّل من جاذبية "القوى المتطرفة" الساعية لبسط نفوذها في المنطقة.
علاوة على ذلك، فإن مثل هذه الاستراتيجية ستُساعد على ترسيخ مكانة "إسرائيل" الإقليمية كعنصر مقبول وشرعي.
التطبيع القائم ليس فقط على مصالح آنية عابرة، بل على أساس أوسع من المصالح الاقتصادية والدبلوماسية والاستراتيجية المشتركة، سيكون هو الأساس لنظام إقليمي أكثر استدامة. وسيُتيح ل "إسرائيل" أن تُثبت موقعها "كقوة إقليمية" بنّاءة ومندمجة ضمن نسيج المنطقة.
المصدر: The National Interest
الكاتب: Yoel Guzansky and Chuck Freilich