الثلاثاء 22 تموز , 2025 03:29

لماذا لم تستسلم حماس في البدايات؟

مقاتل من حماس ويحي السنوار ومحمد الضيف

بعد العمليّات العسكريّة العدائيّة الّتي نفّذها الاحتلال على منطقة شمال غزّة كردّة فعل أوّليّة، يأتي السّؤال المطروح بأنّه لماذا لم تستسلم حماس في هذه الأثناء رغم معرفتها بالنّوايا الخبيثة والإجراميّة للعدوّ، وهي اقتلاع المقاومة وقتل عدد كبير من المواطنين، فلماذا لم تستسلم حماس وتحافظ على انتصارها التّكتيكي الّذي يمكن أن يصبح خسارة إستراتيجيّة مستقبلاً؟ لماذا لا تقبل الحركة بإلقاء السلاح؟ ولماذا لم يذهب قادتها مثل السّنوار والضّيف للمنافي الاختيارية؟ حتّى يتجنّب المدنيّون في غزّة ويلات الدّمار. في هذا المقال أجوبة على هذه التساؤلات:

ارجع فقط بالتّاريخ ليوم 6 يونيو 1982، في السّاعة العاشرة صباحًا وقف أحد الضّباط الكبار في بعثة حفظ السّلام التّابعة للأمم المتّحدة في لبنان بين جنوده، وكان اسمه "تيمور جوكسل"، كان يعتقد أنّ هذا اليوم روتينيّ كغيره، ثم فجأةً، وجد أمامه عشرات الدّبابات الإسرائيليّة تتقدّم في بطء، استوقفها....مهمّته تقتضي منعها من التّقدم، وضع العراقيل المعدنيّة، تعطّلت دبّابة ثمّ إثنتين ثمّ عشرة، ثمّ نفذت منه أدوات الإعاقة، فسأل أحد الجنود الإسرائيليّين، ما الّذي تفعلونه؟ هذا خطأ، كانت التّعليمات الواردة للجنديّ الإسرائيلي أن يتصرّف بأدب مع البعثة الأمميّة، فأجاب، سيدي، هذا غزو.

بعد ساعتين وقف "تيمور جوكسل" مع الضّباط الفرنسيّين في البعثة، فوجدوا في الأفق 1200 دبّابة إسرائيليّة، صعقوا وقرّروا السّماح للإسرائيليين بالتّقدم، يومها قال الضّابط الفرنسي: لا نمتلك حتّى في الجيش الفرنسي نصف الدّبابات الّتي عبرت اليوم، كان ذلك إيذانًا ببدء الغزو الإسرائيلي للبنان، كانت إسرائيل تُعدّ العدّة لهكذا غزو، عمليّة اغتيال مشبوهة لدبلوماسيّ إسرائيليّ في لندن واسمه "شلومو أرجوف"، وجدت فيها تل أبيب المُبرّر لعمليّة الغزو...اتهمت إسرائيل حركة فتح بتدبير الاغتيال، وأنّه لا بدّ من غزو لبنان لطرد الفصائل الفلسطينيّة المقاتلة، وتطهير دول الطّوق من أيّة أعمال عسكريّة ضدّ الإسرائيليين.

هل تشاهد حصار غزّة الآن؟ سبق وجربّت إسرائيل نسخة مروّعة منه في بيروت، بيروت الغربيّة تحديدًا، قصفت إسرائيل العاصمة اللّبنانيّة قصفًا مروّعًا لم يسبق أن شاهده العرب، قطعت المياه والكهرباء ومنعت دخول الدّواء والغذاء...كانت إسرائيل تبحث عن ياسر عرفات تحديدًا، ومن بعده صلاح خلف ( أبو إياد ) وخليل الوزير ( أبو جهاد) وكلاهما مسؤولٌ لعقود طويلة عن الأمن والتّدريب والمخابرات في حركة فتح، كان عرفات يهرب من منزل لمنزل، ويسانده في ذلك فصائل لبنانيّة تحالفت مع الفلسطينيّين وخصوصًا الحزب الشّيوعي اللّبناني، وحركة أمل، والدّروز بقيادة وليد جنبلاط، بدأت الوساطة الأميركيّة، خروج عرفات ورجاله من بيروت مقابل وقف الحصار وانسحاب إسرائيلي من بيروت، صفقة تبدو عادلة للوهلة الأولى، لكن أتدري لماذا رفض الفلسطينيّون الانسحاب في البداية؟!

هذا سوف يقودنا لأسوأ هزيمة جويّة تعرّض لها جيش عربي بعد  حرب 1967، وكانت من نصيب سوريا الأسد، قبل قيام إسرائيل بغزو لبنان، كانت تعلم جيّدًا بأنّ القوّات السّورية موجودة لتأمين الخطّ الواصل بين دمشق وبيروت وتتمركز بأعداد كبيرة في منطقة سهل البقاع اللّبنانية، كان ذلك جزءاً من التّرضية الأميركيّة للأسد بعد حرب 1973، بأن يُسمح للسّوريين بنفوذ عسكريّ في لبنان، مقابل التّخلي عن حلم تحرير الجولان، وكانت إسرائيل لا ترغب في استفزاز الوجود العسكريّ السّوري في لبنان حتى تتقدّم قواتها بسهولة...ثمّ كانت الكارثة.

وقف "مناحم بيجن" أمام الكنيست الإسرائيلي يُعلن أنّ سوريا ليست مستهدفة في لبنان، وذهب المبعوث الأميركي "فيليب حبيب" لدمشق والتقى حافظ الأسد شخصيًا وأخبره أنّ إسرائيل لن تمسّ القوّات العسكريّة السورية في سهل البقاع، واطمأن حافظ الأسد وابتلع الطّعم، لكن في ال 9 من يونيو 1982، باغتت إسرائيل الجيش السّوري في سهل البقاع بهجوم كاسح، وفي ساعتين زمن فقط، دمّرت الفانتوم الإسرائيليّة 90 طائرة مقاتلة سورية وقتلت ما يزيد عن ألف جنديّ فيما سوف يعرف بمعركة "سهل البقاع"، مجزرة للطّائرات لم يتسامح معها السّوفييت لاحقًا عندما أرسلوا وزير دفاعهم للقاء وزير الدّفاع السّوري "مصطفى طلاس" للاستفسار عن سبب الفشل السّوري السّاحق في استخدام السّلاح السّوفياتي، وكانت أزمة قصيرة في العلاقات إلى أنّ عهدت موسكو لألمانيا الشّرقية بإعادة بناء القوّة الجويّة السّوريّة.

كانت سمعة الوساطة الأميركيّة بعد سهل البقاع في الحضيض، وعلم الفلسطينيّون أنّ الاستسلام بالشّروط الأميركيّة يعني سحقًا كاملًا، وبالتّالي استمرّت المقاومة، لمدّة تزيد عن الـ 70 يوماً، صمد عرفات ورجاله، لكن حلفاء عرفات وبعد سقوط أكثر من 18 ألف قتيل مدني في بيروت، لم يعودوا يحتملون الأمر، حركة أمل انسحبت لتأمين الضّاحية الجنوبيّة، بينما نصح وليد جنبلاط عرفات -برفق- أن يُنهي المعركة وينسحب من لبنان، ولم يعد باستطاعة الشّيوعييّن الصّمود أكثر من ذلك رغم استبسالهم في الدّفاع عن عرفات، فكان أن قبل عرفات بالصّفقة، خرج من بيروت إلى تونس رفقة ألفيّ مقاتل فلسطيني بسلاح خفيف، ولأوّل مرّة أصبحت دول الطّوق بكاملها آمنة لإسرائيل، مصر التّطبيع، الأردن بعد طرد منظّمة التّحرير عام 1970، لبنان، بطرد منظّمة التحرير، ثمّ سوريا الّتي لم تطلق رصاصة على إسرائيل ولا توجد بها قواعد قتاليّة متقدّمة للفصائل الفلسطينيّة.

استسلمت منظّمة التّحرير وخرجت من بيروت، فليعمّ الأمن الأميركيّ والسّلام الإسرائيلي إذن، بالطّبع، سيرى الفلسطينيون بأمّ أعينهم معنى الرّفاه والرّخاء الإسرائيلي بعد استسلام المقاومة، بعد 16 يوم فقط من خروج عرفات إلى تونس، وتحديدًا بتاريخ 16 سبتمبر 1982، اتفق وزير الدّفاع الإسرائيلي "أرئيل شارون"، ورئيس أركانه "رافائيل إيتان" مع قادة ميلشيا القوّات المارونيّة اللّبنانيّة وبالأخصّ "إيلي حبيقة" و"مارون مشعلاني" على سحق المدنيّين الفلسطينيّين في صبرا وشاتيلا، أضاءت قوّات "شارون" سماء المخيّم بالقنابل الفسفوريّة، وتقدّمت الميلشيات المسيحيّة صوب المخيّمات وقتلت في 3 ساعات أكثر من 3000 مدني فلسطيني، بأبشع الطّرق، بقر البطون وقطع الأثداء.

لعلّك الآن تُدرك لماذا لا تستسلم حماس، حافظ الأسد صدّق الإسرائيليّين في سهل البقاع وسحقوه..ياسر عرفات انسحب من بيروت وقتلوا 3 آلاف فلسطيني، لكن مهلًا، ما تزال هناك أسباب أخرى، القادة الفلسطينيّون أنفسهم لم ينجوا لاحقًا، هل تعلم أنّ الطّيران الإسرائيلي قصف تونس؟ كان ذلك في صباح الأوّل من أكتوبر من العام 1985، وتحديدًا مدينة حمّام الشطّ على بعد 50 كم من العاصمة التونسية، سلسلة غارات متتالية على مقرّات منظمّة التّحرير والهدف اغتيال عرفات، لكن عرفات نجا وقُتل 50 فلسطيني و 15 تونسي، العهد الأميركيّ لعرفات كان ضمان سلامته الشّخصيّة، وهذا ما جناه، محاولة اغتيال، صحيح فشل الإسرائيليّون في اغتيال عرفات، لكنّهم بالتّأكيد سينجحون في تونس، بدل المرّة اثنتين.

الأولى في 16 إبريل 1988، يومها ذهبت قوّة إسرائيليّة إلى الشواطئ التّونسية، كانت تضمّ 16 من صفوة ضبّاط الشّاباك والموساد والشّين بيت وسايريت ميتكال ويتقدّمهم "إيهود باراك"، نزل منهم 8 لبيت خليل الوزير، وأردوه أمام ناظريّ زوجته ب 76 رصاصة، وبعد 3 سنوات وتحديدًا 14 يناير 1991، سيقوم أحد أكثر الشّخصيّات الفلسطينيّة المشبوهة - والّذي يُعتقد بعمالته للموساد في كثير من الدّوائر - وهو "صبري البنّا" المُكنّى بأبي نضال، بتجنيد أحد أعضاء فريق تأمين القياديّ الفتحاوي "هايل عبد الحميد" الشّهير ب "أبي الهول"، وكان العميل الخائن هو "حمزة أبو زيد"، دخل أبو زيد غرفة يجتمع فيها صلاح خلف ( الرّجل رقم 2 في حركة فتح) وفخري العمري وأبو الهول، وأرداهم جميعًا بالرّصاص.

هذا هو ثمن الاستسلام...تصفية ألوف المدنيّين واغتيال قادة المقاومة، هذا هو ثمن الثّقة بالإسرائيليّين، سهل البقاع، هذا هو عين ما ترفضه حماس، لكن ليس لهذه الأسباب فقط، وإنّما هناك سببٌ أكبر، وهو أنّ الخبرة في التّعامل مع الإسرائيليّين من معركة حصار بيروت وتبعاتها تقول بأنّ الاستسلام والتّشريد في المنافي كان بوابّة كل الرّذائل، لأنّه فتح الباب أمام قبول حركة فتح بالتّطبيع مع إسرائيل، لأنّ فتح حُيّدت تمامًا من جبهة الطّوق، ولم يعد لها تأثير عسكريّ، فباعت كل شيء لأجل السّلطة الوهميّة، فكان أن حضرت مؤتمر مدريد ثمّ وقّعت اتفاق "أوسلو" الّذي قضى على القضيّة الفلسطينيّة وحولّها من حلم تحرير الأرض، للقبول بسلطة فلسطينيّة عميلة للاحتلال الإسرائيلي تقوم - بالوكالة عنه-  بمهام قتل واعتقال المقاومين داخل الأراضي الفلسطينيّة مقابل مساعدات أميركيّة.

هل تعلم الآن لماذا لا تستسلم حماس؟ لأنّها ترى المستقبل بعين التّاريخ...ترى تطهير عرقيّ سيبدأ على نحو لم يسبق له مثيل...ترى موجات تهجير إجباريّة لأهالي القطاع...ترى سلطة عميلة للاحتلال تنتقم من ألوف العوائل الفلسطينيّة بحجّة دعم المقاومة، والأهمّ، ترى أرضًا فلسطينيّة أُخرست فيها صوت البندقيّة للأبد، وحلّ محلّها تطبيع، يعيش فيه الفلسطينيّون عبيدًا ما تبقّى من أعمارهم للإسرائيليّين، هل تعلم الآن لماذا لا تستسلم حماس، وهل تعلم أنّ الإسرائيلي لا يُؤمن وعده والأميركيّ لا يُضمن عهده؟ هل تعلم أن المُلام الوحيد هو الصّهاينة، وأنّ من عليه إيقاف الحرب هم الصّهاينة، وحدهم لا غير؟

هذا المقال يعبر عن رأي الكاتب ولا يعكس بالضرورة رأي الموقع


الكاتب: أحمد علاء الدين




روزنامة المحور