لم تعد منشأة فوردو مجرد منشأة نووية إيرانية تم قصفها، بل معضلة وفضيحة تلاحق الرئيس الأميركي دونالد ترامب الذي يتخبط في تصريحاته المتكررة، ويسعى فيها لإثبات روايته الممجوجة بالتناقض والاستعراض ولم يصدقها الأميركيون، فيكاد لا يمر تصريح او مناسبة إلا ويتطرق فيها لقضية فوردو ليبرهن ان الضربة الجوية الأميركية دمّرت برنامج إيران النووي لا سيما منشأة فوردو، إلا ان الأميركيين والرأي العام في الولايات المتحدة لم يقتنع بها حتى الساعة.
النفي الأول جاء في التقرير السري الذي أعدّته وكالة استخبارات الدفاع الذراع الاستخباراتية للبنتاغون استناداً الى تقييم القيادة المركزية الأميركية الذي تم تسريبه، وأثار زوبعة كبيرة في الإعلام الأمريكي ، حيث اتهم ترامب بالكذب والخداع ما اضطره للدخول في سجال ونزال مرير مع كبرى شبكات الإعلام الامريكية لإقناعهم ان سرديته حقيقية وليست استعراضية كما وصفوها، هذه التصريحات لترامب تتعارض مع الوقائع والأدلة سواء تقرير الاستخبارات الأميركية وتقديرات الأوربيين والوكالة الدولية للطاقة الذرية أو بيانات الإيرانيين، وشكوك الإعلام العبري كلها تؤكد زيف هذا الادعاء. ونستعرض أهمها:
1-البداية من شبكة CNN الأميركية التي نشرت التقرير السري الأميركي ومفاده ان القصف الجوي الأميركي سد مداخل منشأتين اثنين لكنه لم يؤد الى انهيار المباني تحت الأرض ولم يدمر المواقع النووية، وأن مخزون اليورانيوم المخصب لم يدّمر، وأجهزة الطرد المركزي سليمة إلى حد كبير بحسب مسؤولين مطلعين، دعم هذا الرأي ما نشرته وكالة رويترز انه رغم تدمير التونلات في نطنز إلا ان أجهزة الطرد المركزي ما تزال تعمل.
2-إن الوكالة الدولية للطاقة الذرية وهي الجهة التقنية الخبيرة والمعنية مباشرة بالمنشآت النووية كان مديرها رافائيل غروسي واثقاً حين قال ان " الضربات للبرنامج النووي الإيراني شديدة لكنها لم تدمره بالكامل"، وأنه "يمكن لطهران استئناف تخصيب اليورانيوم خلال أشهر، فهي تمتلك القدرات الصناعية والتكنولوجية للتخصيب". وأشار الى انه "لم يرصد وجود أية اشعاعات نووية تسربت من المنشآت" ما يعني ان الأضرار محدودة فيها، الأمر الذي أكدته المنظمة الإيرانية للطاقة الذرية في بيان.
3-تقييمات الأوربيين أشارت الى أن إيران وزّعت اليورانيوم عالي التخصيب في مواقع مختلفة وفق فاينانشال تايمز، وأضافت إن أضراراً جسيمة وقعت دون تدمير كامل. بدوره، أكد الخبير الأوربي داني سترينوفيتش أن" طهران لا تحتاج الى فوردو او نطنز من أجل تخصيب اليورانيوم بنسبة نقاء 90%، بل يكفيها منشأة صغيرة نسبياً تمكنها مع أجهزة الطرد المركزي التي لم يتم تدميرها".
4-الإعلام الإسرائيلي شكك برواية ترامب ونتنياهو ونشرت صحيفة هآرتس صوراً للأقمار الصناعية تشير الى شاحنات تنقل -قبل القصف- اليورانيوم من منشأة فوردو الى منشآت سرية آمنة، على ان شاحنة واحدة تكفي لنقل جميع كمية اليورانيوم عالي التخصيب بنسبة نقاء 60% وقدره 408 كيلوغرام، لكن إيران استخدمت 14 شاحنة بهف الخداع، وتضيف هآرتس انه يكفي مئات أجهزة الطرد المركزي لاستئناف عملية التخصيب، وايران ما تزال تمتلكها ( إيران تمتلك عشرات آلاف أجهزة الطرد المركزي والأهم فيها الجيلين الحديثين الخامس IR5 والسادس IR6 ). مسؤولون إسرائيليون شككوا أيضا بسردية ترامب وقالوا ان نتائج الهجوم على منشأة فوردو ليست جيدة على الإطلاق حسب شبكة ABC الأميركية.
موقع حدشوت بزمان العبري دعم هذا الرأي وقال ان الهجوم فشل، مشيراً الى ان منشأة فوردو على عمق 800 متر تحت الأرض وليس 80 مترا الامر الذي كشفه مدير الوكالة الدولية للطاقة الذرية رافائيل غروسي قبل الهجوم الأمريكي.
5- إيران صاحبة الأرض والعارفة بشُعبها وتفاصيلها أكدت على انه لا مجال للشك بان عدوان الولايات المتحدة على موقع فوردو قد فشل، وان اسطورة القنابل الخارقة للتحصينات سقطت حسب مستشار قائد حرس الثورة العميد إبراهيم نجاري، على ان القصف الأمريكي على منشآت إيران النووية الثلاث في نطنز واصفهان وفوردو هي عملية استعراضية لحفظ ماء الوجه، وإنقاذ نتنياهو، وخطوة نحو إنهاء الحرب وفق مستشار قائد الثورة الإسلامية علي لاريجاني، مضيفا "نمتلك المعرفة النووية ونستطيع البناء مرة أخرى".
لكن ماذا حصل قبل وبعد الهجوم الأميركي، وكيف حمت إيران منشآتها النووية، بعض من الرواية حسب مصدرين إيرانيين إثنين للخنادق:
قبل مدة أبلغت طهران مدير الوكالة الدولية للطاقة الذرية رافائيل غروسي أن لديها مراكز ومنشآت نووية جديدة للتخصيب، ستنقل اليها عدداً من أجهزة الطرد المركزي وتقوم بتفعيلها، وأنها ستزود الوكالة بعناوينها، وترتيب زيارة له إليها، وقبل حدوث هذا الامر نسف الإسرائيليون والأميركيون المفاوضات النووية في روما ونفذّت "إسرائيل" عدوانها مستهدفة المنشآت القديمة لا الجديدة. يضيف المصدران ان محطة نطنز في الأساس تم نقل أجهزة الطرد منها قبل مدة طويلة وأصبحت المنشأة شبه فارغة، ومجرد هياكل ومباني إدارية وغرف كهرباء وغيره هي التي تضررت. وان السلطات الإيرانية وضعت خططاً مسبقة، وقامت بإجراءات أمنية احترازية لإفشال أي ضربة إسرائيلية وأميركية كانت متوقعة عبر إخلاء عدد من منشآتها النووية المعروفة لا سيما نطنز، ولم تعد المنشأة مركزاً لمعالجة اليورانيوم وانتاجه، بل مجرد منشأة شبه خاوية من النووي.
اما محطة أصفهان المعروفة باسم "مركز الشهيد رئيسي النووي" فهي مخصصة لمعالجة الكعكة الصفراء وإنتاج غاز اليورانيوم UF6 ولا تقوم بمعالجة اليورانيوم المخصب.
الخرسانة الإيرانية تفوقت على القنابل الاستراتيجية الأميركية
أما منشأة فوردو التي تنتج اليورانيوم عالي التخصيبU-235 60% وتحتوي على عدد كبير من أجهزة الطرد المركزي استُهدفت مداخلها، وكانت الأضرار محدودة، الفضل لجنود "الفرقة 21 رمضان" في حرس الثورة التي قامت بإجراء تمويهي وسدوا المداخل الى المنشأة، وضللوا بهذا الإجراء القنابل الأميركية عن الأهداف الحقيقية، الأمر الذي أشارت إليه أيضاً مجلة نيوزويك الأميركية، كما تم تحصين منشأة فوردو في جبل منيع عُرف بجبل النار على عمق 800 متر تحت الأرض وتم حفره بطريقة حلزونية. يتكون الجبل من صخور صلبة تشكل حصناً جيولوجياً منيعاً ضد أي هجوم تقليدي، المنشأة بُنيت بخراسانات مسلحة حديثة، ويحيط بها منظومات دفاع جوي، وحراسة مشددة، ونصبت كمائن في الأرجاء لمواجهة أي عملية إنزال جوي او نفوذ أجنبي محتمل.
المصدران أكدا للخنادق ان ما نشره بعض الإعلام العبري والامريكي نقلا عن مسؤولين إسرائيليين بان "عناصر من الموساد زاروا الموقع بعد القصف للتأكد من تدميره" عار عن الصحة وهي مزاعم وكذب، الهدف منه تضخيم قوة العدو والإنجاز، وان الفيديوهات التي تداولتها وسائل الإعلام غير صحيحة ومزيفة تعود هذه المشاهد الى أماكن في سوريا تم تصويرها عام 2024. هذا وكشفت صور أقمار صناعية جديدة بعد القصف عبر شركة MAXAR الأميركية بدء الإيرانيين بأعمال حفر، وإعادة تأهيل منشأة فوردو، جدير بالإشارة الى ان ايران لديها 9 آلاف كيلوغرام من اليورانيوم المخصب بمستويات نقاء متفاوتة 5% و20% و60%، والكمية التي تقلق الغربيين هي عالية التخصيب 60% (408 كيلوغرام) وإذا تم رفع مستوى تخصيب هذه الكمية الى نسبة نقاء 90% تصبح صالحة لإنتاج عشر قنابل ذرية.
من نافل القول إن الجمهورية الإسلامية تمتلك عدداً من المنشآت النووية وليس ثلاثة فقط التي استهدفها القصف (نطنز واصفهان وفوردو)، فما تزال محطة بوشهر الكهروذرية تعمل ولم تُستهدف، وكذلك مركز الأبحاث النووية في طهران، وعدد آخر من المنشآت النووية المعروفة لدى الوكالة الدولية، وأخرى سرّية هي عبارة عن المراكز الآمنة التي تم نقل أجهزة الطرد واليورانيوم اليها قبل الهجوم لحمايتها، ذلك ضمن مخطط إيراني مسبق للحرب والطوارئ وضعته المنظمة الإيرانية للطاقة الذرية.
يؤكد خبراء إيرانيون وأجانب انه يمكن القول بان الخرسانة الإيرانية والإجراءات الأمنية والردعية تفوقت على طائرات الشبح والقنابل الاستراتيجية الأميركية. وثمة رأي لدى مسؤولين إيرانيين ان ترامب أراد من خلال القصف إنقاذ نتنياهو وإنزاله عن الشجرة بعد تورطه بالحرب مع إيران، فنفّذ ضربة استعراضية ضد منشآت إيران النووية، لهذا قرر ترامب مسبقاً ابتلاع الرد الصاروخي الإيراني على قاعدة العديد العسكرية الأميركية في قطر، وتحوّل خلال ساعات من دعوة إيران الى " الاستسلام" و" إسقاط النظام" الى الدعوة للسلام ووقف إطلاق النار و"الله يبارك إيران"!
العدوان الأمريكي على فوردو:
فجر يوم الأحد بتاريخ 22 حزيران/ يونيو 2025 انطلقت 7 مقاتلات أميركية من طراز الشبح B2 سبيريت من قاعدة وايتمان الجوية في ولاية ميزوري في مهمة دامت 37 ساعة بدعم من طائرات التزود بالوقود وبمشاركة 125 مقاتلة وغواصة أميركية لتنفذ الهجوم على ثلاثة منشآت إيرانية هي (نطنز، فوردو، وأصفهان)، حيث ألقت طائرات الشبح 6 قنابل خارقة للتحصينات GPU-57 زنة كل واحدة 30 ألف رطل أي 14 طنا، ما يعادل 84 طنا على منشأة فوردو. فيما أطلقت الغواصة الأميركية 30 صاروخ توماهوك نحو منشأتي نطنز واصفهان، وسلكت طائرات الشبح الأميركية الممر الآمن من البحر الأبيض المتوسط، وسوريا، والأردن، والعراق لشن الهجوم. العملية أطلق عليها اسم "المطرقة منتصف الليل". وفي مؤتمر صحفي عقده البنتاغون عقب الضربة، قال الجنرال دان كين، رئيس هيئة الأركان المشتركة، إنه خلال الغارات، تم إسقاط قنابل MOP الخارقة للتحصينات على منشىت إيران النووية.
-إعلامي وباحث سياسي.
- استاذ الإعلام في الجامعة اللبنانية.
-دكتوراه في الفلسفة وعلم الكلام.
- مدير ورئيس تحرير موقع الخنادق الالكتروني.