شهد لبنان في 12 تشرين الأول/ أكتوبر 2025 حدثاً استثنائياً على مستوى العالم، تمثّل في أكبر تجمع كشفي يُسجل في التاريخ الحديث، نظّمته جمعية كشافة الإمام المهدي تحت عنوان "أجيال السيد" في الذكرى الأولى لاستشهاد السيد نصر الله والذكرى الـ 40 لتأسيس الجمعية. وجسد الحدث كيفية تبلور فكرة المقاومة بعد كل التحديات التي خاضتها ومجتمعها إلى منظومة متكاملة من القيم، يمتد في وعي الشباب والجيل الصاعد ليلهمه.
التجمع الذي تخطى بالأرقام كل التجمعات الكشفية حول العالم وبلغ عدد المشاركين فيه 74475، من الهند إلى الولايات المتحدة، حمل تأكيداً على أن نهج السيد حسن نصر الله لم يكن يقتصر فقط على الإطار العسكري أو السياسي، بل كان يمثل ثقافة حياة بنيت عبر عملية تراكمية مستمرة بدأت منذ أربعة عقود، وأنتجت جيلاً جديداً على وعي واضح بمرجعيته ومسؤولياته.
رسائل التجمع الكشفي
الرسالة الأولى التي عكسها الحدث كانت رسالة الاستمرارية. هذا الجيل الذي ملأ الساحات بزيه الكشفيّ الموحد، هو الامتداد الطبيعي لتلك القيم التي أرساها السيد في خطابه وممارساته، من الإخلاص إلى الانضباط، حيث برز العمل الجماعي في أبهى صوره، فهذا التجمع الذي احتاج إلى 8000 مشرف بدا وكأنه صمم بيد واحدة لحجم التنسيق العالي والدقة التي كانت فيه. وهذا خير دليل على أن السيد نصر الله كان يؤسس لمشروع كبير يرسم خلاله هوية مجتمع بأكمله. وهذا ما نحصد ثماره.
البعد الثاني الذي يمكن قراءته هو البعد النفسي والمعنوي في هذا الانتماء. فمن يشاهد هذا الحشد دون معرفة حقيقية فيه قد يسأل عن المقابل أو المصلحة التي تدفع هذا العدد من الشباب للانخراط بهذا الحماس والانضباط. بانتظار جواب أن حزب الله يقدم عروضاً مادية لهؤلاء الشباب مقابل مشاركتهم، إلا أن حزب الله ليس تنظيماً يحتاج إلى أن يقدم الإغراءات ليجنّد عناصره، بل هو فكرة تأصلت في المجتمع وترسخت في كل بيت من بيوت الجنوب أو البقاع أو الضاحية، وأصبح الانتماء لهذا الخط مبدأ وجودي يتوارثه الأبناء كما يتوارثون الإيمان بالوطن والكرامة.
من هنا تأتي المفارقة التي لا يفهمها من هو خارج هذه البيئة "كيف يمكن لمجتمع أن يرى في التضحية بالحياة أسمى صور الحياة نفسها"؟ الجواب في ثقافة المقاومة أن الحياة تُقاس بما تحققه من معنى لا بما تحتويه من متع. وهذا ما يجعل الاستمرارية ممكنة عبر الأجيال، لأن الفكرة تجاوزت الأفراد وأصبحت قيمة متناقلة لا يمكن أن تزول.
المقاومة مشروع متكامل
كلمة الشيخ نعيم قاسم خلال هذا التجمع جاءت لتؤكد هذا المسار. فقد وضع الحدث في سياقه الأوسع، مؤكداً أن المقاومة ليست خياراً عسكرياً فحسب، بل مشروع تربوي وأخلاقي وثقافي. وهذا ما عبر عنه الشيخ قاسم "المقاومة هي جهاد النفس والعدو، وهي تربية على حب الوطن وسبيل إلى الكرامة". فالشباب الذين ملأوا الساحات بالأمس هم الواجهة الجديدة للمقاومة، يحملونها معهم في المدارس والجامعات وكل الميادين.
بعد المشاهد المميزة التي نقلها التجمع يمكن قراءة هذا الحدث كدليل على نجاح المقاومة في إنتاج نموذج مجتمعي قادر على الاستمرار دون أن يفقد جوهره مع اشتداد الظروف والتحديات. فالتربية الكشفية، التي يتلقاها هؤلاء الفتية هي تربية على حب الحياة والوطن وتحمل المسؤولية من أجل حماية الآخرين. وبهذا يتحقق التكامل بين القيم العسكرية والإنسانية في آن واحد. وهذا ما يجعل المقاومة تمتلك قاعدة أخلاقية تميزها عن كل التنظيمات الأخرى.
أسس تجمع "أجيال السيد" أمساً لمرحلة جديدة من حضور السيد في الذاكرة الجماعية. هذه الأجيال التي تنشأ اليوم وتتربى على نهجه ستبقيه حاضراً في وعيها كما بقي السيد عباس الموسوي حاضراً في عقل السيد حسن نصر الله ومن عايشه فالمجتمع الذي صاغت حركة المقاومة قيمه منذ عقود أصبح اليوم بدوره منتِجاً للمقاومة لا ينفصل عنها.
الكاتب: غرفة التحرير