هناك دول عدّة مسلحة نوويَّا ومعترف بها في معاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية: الولايات المتحدة الأمريكية، روسيا، المملكة المتحدة، فرنسا، الصين، دول أخرى الهند، إسرائيل (غير مُعلنة)، باكستان، كوريا الشمالية، جنوب إفريقيا سابقًا، بيلاروسيا، كازاخستان، أوكرانيا. وتطوير الأسلحة النووية له تأثير كبير في تحليل القوة العسكرية والردع، وفق طرح توماس شيلينغ في نظرية الردع النووي، العام 1966. يدور عمل شيلينغ بشأن الردع النووي حول كيف يمكن للخوف من الدمار المتبادل أن يمنع الحرب خاصة مع مخاطر العواقب غير المقصودة ودور الصدفة، لكنه يسلط الضوء أيضًا على أهمية التهديدات الموثوقة وديناميكيات التصعيد، وفهم الردع النووي كشكل من أشكال المساومة.
ولما كانت الأسلحة النووية تمنح الدول القدرة على تدمير الأعداء، بل وتدمير بقية البشرية أيضًا، دون التعرض لرد فوري، نظرًا لغياب نظام دفاعي مُتصور وسرعة نشر الأسلحة النووية، لماذا لم تصنع إيران القنبلة النووية مع ما وصلت إليه من قدرات؟ وبعبارة أخرى، لما كان التسلح النووي يؤمن تعزيز سياسات الردع لدى إيران ما الذي يمنعها من عسكرة برنامجها النووي؟
هنا، تبرز إشكاليتان: 1) لو كان الردع الحقيقي في نفس امتلاك النووي لماذا لم تستخدمه روسيا في حربها ضد أوكرانيا، أو اميركا ضد فييتنام، أو الكيان المؤقّت ضد لبنان وحتى ضد إيران في العدوان الأخير؟ 2) نفس إمكانية التهديد فعّال في الردع وفق نظرية شيلينغ، وهو الردع الكامن الذي تكاد أهميته تفوق أهمية التهديد الواقع. يقترن الحديث عن الإشكالية الأولى بتداعيات التسلّح النووي وعقباته على مستويات عدّة، بينما تدور الإشكالية الثانية حول الردع الكامن وتطوّر أهميته ما بعد الحرب الباردة. تحاول هذه الورقة تفكيك مشكلة الردع النووي الإيراني وفهم سبب عدم امتلاك إيران القنبلة النووية، حتى الآن.
الردع الكامن
برزت ما بعد الحرب الباردة الحاجة لزيادة الردع فكان لا بد من اللجوء إلى كثير من الخطوط الحمراء الصغيرة بدلًا من خط أحمر كبير، يمكن أن ينكسر ويؤدي إلى التصعيد المنبوذ من طرفي الصراع. الردع بالنسبة لتوماس شيلينغ هو شكل من أشكال المساومة، فهو عملية مستمرة من التفاعل الاستراتيجي وليس توازنًا ثابتًا للقوة. يشهد مفهوم "الردع" القائم على التهديد بالعقاب أو المنع تراجعًا في الفعالية لصالح نموذج الردع الجديد، الردع الكامن، أو الردع البطيء، وتزداد فعالية هذا النوع من الردع غير المباشر مع الوقت. ويكشف شيلينغ كيف يُستخدم التهديد بتكاليف غير مقبولة ويمكن أن يكون أداة فعّالة في تشكيل قراراته، بدلاً من الوعد بالمكافأة، لمنع أي فعل، اعتمادًا على نفس احتمال القدرة على إلحاق تكاليف غير مقبولة بالخصم، حتى لو لم تُستخدم فعليًّا، فإن نفس احتمال إمكانية "الإيذاء" وإلحاق الألم أو العقاب، قد يكون عاملاً محفزًا في الردع، وهو ما يطلق عليه التهديد بالردع الكامن أو البطيء أو غير المباشر.
ويعرّف شيلينغ الردع الكامن بأنه عملية ادّخار التهديد الموثوق بإلحاق الضرر لاستخدامه لاحقًا لتحقيق المكاسب؛ وهو تهديد للسيطرة على الموقف من خلال إبعاد خيارات الخصم، فيَعِدُ بالرد على مدى فترة زمنية أطول، مع التصميم على ثني الطرف الآخر عن اتخاذ مسار عمل مُعيَّن. وتُدرِك تدابير الردع البطيء أن بعض خيارات الخصم غير قابلة للإلغاء، تاليًّا، يشكّل الحد من الأضرار التكتيكية والضربة المضادة الاستراتيجية اللاحقة تهديدًا أكثر واقعية وقابلية للتحقيق. وتكمن نقطة قوة الردع البطيء في أنه يبدو عمومًا أكثر استقرارًا ويقينًا من أشكال العقاب والمنع السريعة. ويبرز مفهومان أساسيان في دراسة تأثير الردع بالعموم هما: التهديد والمساومة، في سياق فهم ديناميكيات التصعيد ودور الصدفة في الصراع.
التهديد: تعدّ إمكانية امتلاك القنبلة النووية الإيرانية، حتى في غياب اليقين من القيام بذلك، رادعًا لأي هجوم. ووفق نظرية شيلينغ في الردع، المصداقية عامل مهم في فعالية الردع، بحيث أن التهديد لا بد أن يكون موثوقًا كي يكون الردع فعالاً، أي أنه على إيران أن تملك من الموثوقية والمصداقية ما تجعل الخصم الأميركي والإسرائيلي يعتقد أن التهديد سيُنفذ، حتى لو تكبدت الدولة المدافعة أضرارًا جسيمة. ويؤمن امتلاك القنبلة النووية التهديدات الموثوقة في الردع المباشر، بينما يمثّل التهديد بامتلاكها مفهوم الردع الكامن.
المساومة: يستخدم الردع في المساومة والردع النووي ليس مجرد استراتيجية عسكرية، بل كشكل من أشكال المساومة، حيث يُستخدم التهديد بالرد للتأثير على سلوك الخصم.
موانع محتملة للتسلّح النووي
يقصد بالموانع أبرز العوائق النظرية في ميزان الردع النووي التي تحول دون خيار التسلح النووي باعتبار ما لها من تأثيرات سلبية. وهي محتملة لأن الدولة يمكن أن تتعامل معها أو تتكيّف معها أو قد تسقطها من حساباتها أو لا تجد لها ثقلًا. وتملك هذه الموانع عواقب يكون تقييمها نسبيًّا بحسب الدولة ومبادئها في السياسة الخارجية وقدراتها في احتساب الأثمان والمكاسب سواء للدولة نفسها أو المجتمع الدولي والإنساني.
خطر التصعيد: يعود مفهوم "سياسة حافة الهاوية" للمنظر توماس شيلينغ، ويبرز المفهوم دور المخاطرة والمصادفة في الردع النووي.
- المخاطرة: يمكن للدولة أن تحاول إجبار خصمها على التنازل عندما تدفع الصراع إلى حافة حرب نووية، لكن هذا يزيد أيضًا من خطر التصعيد غير المقصود.
- المصادفة: كلما ارتفعت احتمالية العواقب غير المقصودة ارتفع احتمال عنصر التصعيد الحاسم. إن احتمالية وقوع حوادث أو سوء تقدير أو سلوك غير عقلاني يمكن أن تزيد من قوة خطر الحرب النووية.
ويُنظر إلى الانتشار النووي على نطاق واسع على أنه عامل مزعزع للاستقرار، مما يزيد من خطر نشوب حرب نووية. يمكن أن يؤدي التوتر الإقليمي والدولي بين الدول المسلحة نوويًا، إلى جانب العقائد والسياسات الأمنية التي تعطي دورًا بارزًا للأسلحة النووية، إلى زيادة خطر استخدام الأسلحة النووية. أضف إلى ذلك خطر الاستخدام العرضي أو غير المصرح به ووجود عدد كبير من الحوادث التي كادت فيها الأسلحة النووية أن تستخدم عن طريق الخطأ بسبب سوء التقدير أو الخطأ.
- إشكالية القدرة دون مصداقية: هناك نقطة جوهرية في متطلبات نجاح الردع النووي، وهي أن يبدو جزء من الترسانة النووية للدولة قادرًا على الصمود في وجه هجوم من الخصم، وأن يُستخدم لشن ضربة ثانية انتقامية. وهذه النقطة يطرحها كينيث والتز ضمن المتطلبات الثلاث لنجاح الردع النووي. وقد كتب برنارد برودي في عام 1959 أن الردع النووي الموثوق يجب أن يكون جاهزًا دائمًا. وفق هذه القاعدة، ينبغي على إيران استخدام السلاح النووي ضد هجوم نووي من الخصم فهل تقوم إيران بذلك في ظل مبادئ السياسة الخارجية الإيرانية الإسلامية، وتعرّض البشرية للخطر؟ تشكل القدرة، والمصداقية، والتواصل "عناصر الردع الثلاثة". وقد تمتلك إيران القدرة، لكن هل ستملك القدرة على استخدامها لتعزيز عنصر المصداقية؟ هل سيصدق الخصم أن إيران ستستخدم السلاح النووي، مع ما لها من عقيدة بهذا الشأن، أو في ظل ضعف ترسانتها أمام الترسانات الأقوى؟
- ميزان القوى النووي: بالعموم، يكون الفوز في الأزمات النووية من نصيب الدول ذات الترسانة المتفوقة على حساب الترسانة الأصغر. وإن امتلكت إيران قنبلة نووية تدخل في تحدي حجم الترسانة مع الدول المتفوقة ويترتب عليها حسابات الدول النووية. جادل ماثيو كرونيج بأن الدول ذات التفوق النووي أكثر عرضة للفوز في الأزمات النووية. وعادة ما تصبح الدول النووية أقل عرضة للاستهداف من دولة غير نووية، لكن ذلك لا يردع دولة نووية أخرى عن استهدافها حال صراع منخفض المستوى.
عوامل مؤيّدة للتسلّح النووي
وهي مجموعة العوامل التي تخفّف من حدة انتقادات التسلح النووي، وتعمل على خفض تداعياتها السلبية، او تتطرّق إلى أهمية حيازة السلاح النووي في تأمين الحماية وبسط النفوذ، وأبرزها: تسلّح الدول قد يؤمن لها تهديدًا أو خطرًا قصير أو متوسط المدى لكن قد تتعلم الدول التعايش معها نوويًّا، وهو ما يطلق عليه مؤيدو نظرية الردع النووي مفهوم "التعلم النووي". وتاليًّا لا مانع من التسلّح مقابل مكاسب التهديد بالسلاح النووي وتأثير امتلاكه على موازين القوى.
- غالبًا ما تتخذ الدول قرارات بشأن تطوير الأسلحة النووية بناءً على مخاوف أمنية. قد تسعى بعض الدول إلى الحصول على أسلحة نووية لحماية نفسها من التهديدات الخارجية أو لتعزيز نفوذها في المنطقة.
- تجري نظرية الردع العقلاني على دول التسلح النووي، وتُعدّ مفارقة الاستقرار وعدم الاستقرار مفهومًا أساسيًا في النظرية. وهي تنص على أنه عندما تمتلك كل من دولتين أسلحة نووية، فإن احتمال نشوب حرب مباشرة بينهما ينخفض بشكل كبير، بينما يزداد احتمال نشوب صراعات طفيفة أو غير مباشرة بينهما. يحدث هذا لأن الجهات الفاعلة العقلانية ترغب في تجنب الحروب النووية، وبالتالي فهي لا تبدأ صراعات كبيرة ولا تسمح للصراعات الصغيرة بالتصاعد إلى صراعات كبيرة، مما يجعل من الآمن الدخول في صراعات طفيفة، مع الاعتماد على الحرب بالوكالة.
السياسة الإيرانية في الردع النووي
تحدد اتفاقية حظر الانتشار النووي (NPT) الدول التي يُسمح لها بامتلاك الأسلحة النووية وتلك التي لا يُسمح لها بذلك، كما تحدد التزامات كلا النوعين فيما يتعلق بعدم الانتشار ونزع السلاح والاستخدام السلمي للطاقة النووية. ويمارس المجتمع الدولي ضغوطًا سياسية واقتصادية على الدول التي تسعى للحصول على أسلحة نووية لثنيها عن ذلك، ويمكن أن تشمل هذه الضغوط العقوبات الدبلوماسية والاقتصادية. يُغذي التسلح النووي ردود الفعل الإقليمية والدولية المناهضة للتسلّح، والتي قد تدفع نحو المزيد من التشنج في العلاقات الدبلوماسية بين دول الجوار بالدرجة الأولى، وتثير الريبة والشكوك حول نوايا الدولة النووية الصاعدة.
إيران تملك القدرة على تطوير القنبلة النووية لكنها تتعرّض لضغوط دولية كبيرة تتخّذ من حيازة إيران للسلاح النووي ذريعة لمواجهة النظام نفسه لأنه نموذج حكم فريد في السيادة والاستقلالية خارج الفلك الصهيو-أمريكي في المنطقة. ويقر خبراء السياسة الخارجية بأن الولايات المتحدة وإسرائيل وغيرهما من الشركاء في الشرق الأوسط ينظرون إلى إيران باعتبارها تهديدًا رئيسيًّا لمصالحهم في المنطقة، وينظرون إلى استحواذها المحتمل على الأسلحة النووية باعتباره سيناريو يغير قواعد اللعبة ويجب منعه بكل قوة. هذه النقطة تعد عقدة مركزية في مسار التسلح النووي الإيراني، فمنذ عقود ثلاث تقريبًا، تحارَب إيران سياسيًّا وإعلاميًّا في مختلف المؤسسات الدولية بذريعة امتلاك السلاح النووي، وشكّلت هذه السردية الحجة الأميركية الأولى في تحريض دول الخليج على إيران، وكانت تداعياتها قاسية لجهة الحصار والعزلة، فضلًا عن التهديدات الأميركية المستمرة بتوجيه ضربة عسكرية للبرنامج النووي، برزت بشكل كبير في 2003، و2019، ومؤخرًا في 2025. وتجدر الإشارة إلى أن الذريعة الأميركية الصهيونية بشأن تهديد إيران النووية للأمن القومي الإقليمي تحت عنوان سباق التسلّح النووي في المنطقة ليس إلا لمنع دول الخليج من القدرات النووية، والحفاظ عليها "تابعًا ومحتاجًا" رغم كل مقدراتها للهيمنة الأميركية.
وبناء عليه، في حال عدم امتلاك إيران للسلاح النووي، قد تكون التزمت بدرجة التهديد بالردع الكامن الذي يحتمل الكيان المؤقت أنه مُدّخر أو يعمل الإيراني على ادخاره. وساهمت التصريحات الإيرانية في تعزيز الردع الكامن عندما تركت إيران المجتمع الدولي يقف حائرًا: هل إيران تملك القنبلة أم لا؟ وفي خطوة متقدمة أكثر في خضم التهديد بتوجيه ضربة للبرنامج النووي الإيراني، صرّح كمال خرازي، رئيس المجلس الاستراتيجي للسياسات الخارجية في إيران لقناة "الميادين": "لدينا الآن القدرات الفنية اللازمة لإنتاج أسلحة نووية"، قائلًا إن طهران ستضطر إلى تغيير عقيدتها النووية إذا واجهت تهديدًا وجوديًّا. هذا التصريح بشأن إمكانية "تغيير العقيدة النووية"، وإثارة التساؤلات حول احتمال تغيير فتوى الولي الفقيه، السيد الخامنئي، بهذا الصدد، أثار المخاوف من نفس احتمال مصداقية التهديد لما يترتّب عليه من تأثير على الصراع في المنطقة.
تعدّ المصداقية من شروط فعالية الردع، إذ يجب أن يُدرك الطرف الآخر مصداقية التهديد بالضرر. وهذا يتطلب توضيح القدرات والنوايا، وإظهار الاستعداد للتصرف في حال الاستفزاز. الأمر الذي يُلحظ تمامًا في التصريحات الرسمية الإيرانية والتلويح بطرد مفتشي الوكالة الدولية للطاقة الذرية في 10نيسان 2025، التهديد بالردع الذي قرأته وزارة الخارجية الأميركية جيدًا في الرد الإيراني على التهديدات الأميركية باستخدام القوة العسكرية ضد إيران إذا لم توافق على إنهاء برنامجها النووي. يومها، قال علي شمخاني، مستشار المرشد الإيراني والمشرف الخاص على المفاوضات النووية، إن "استمرار التهديدات الخارجية، ووضع إيران تحت طائلة هجوم عسكري محتمل، قد يدفعان بإيران إلى اتخاذ إجراءات ردعية، أبرزها طرد مفتشي (الوكالة الدولية للطاقة الذرية) ووقف التعاون معها، ونقل المواد النووية المخصبة لمواقع داخلية آمنة وسرية".
معادلات الردع الإيراني النووي الكامن
يشير مفهوم "الردع الكامن" إلى أن إيران تستفيد من مجرد احتمال امتلاك قدرات نووية متطورة قابلة للاستخدام في صناعة القنبلة النووية. ويهدف هذا النهج إلى ردع الخصوم المحتملين دون تجاوز العتبة إلى التسلح النووي العلني. إيران أظهرت قدرة على استخدام التكنولوجية النووية في سياق الردع الكامن، واتخذت إجراءات ردعية قوامها رسائل تهديد موثوقة: كلما ارتفع الضغط على إيران يرتفع احتمال الذهاب إلى العسكرة النووية والخروج من اتفاقية الوكالة الدولية للطاقة الذرية. عززت إيران بإجراءاتها الهواجس والمخاوف بما ينقل رسائل تهديد موثوقة تجد مصداقية لدى الطرف الآخر. وتاليًّا، أدى القلق المستمر من حيازة السلاح النووي إلى سلسلة تحركات وخطابات متضاربة ومتخبّطة بشأن قرار توجيه ضربة أو لا، خاصة وأن المحاذير ارتفعت حول احتمال أن يدفع الضغط إيران للخروج من التزامها الذاتي بحرمة الحيازة باتجاه عسكرة البرنامج النووي.
هذه الورقة تستخدمها إيران في إرساء معادلة جديدة في الردع تجبر الطرف الخصم على الحفاظ على هامش من المناورة وعدم حرق الجسور كلها، ما يمكن أن يفسّر حدود الضربة الأميركية على المنشآت النووية الإيرانية: فوردو ونطنز وأصفهان في حزيران 2025، بعد حملة إعلامية وسياسية ضخمة. فرسائل الردع النووي الكامن على المستوى الرسمي الإيراني ضغطت في مرحلة ما قبل عدوان الكيان المؤقت باتجاه منع العدوان لهواجس انتقال إيران إلى العتبة النووية نتيجة الضغط. كما ساهم الردع الكامن خلال التدخل العسكري الأميركي نتيجة الضغوط المعروفة بسياقاتها في تحجيم الهجمات العسكرية على المنشآت النووية، خاصة وأنّ سرية البرنامج النووي ترفع من مستوى المخاطر لأي دولة تفكر في العمل العسكري ضد إيران، ويدفع الدول الأخرى إلى مراعاة مصالحها ومطالبها بجدية أكبر. هذا، وتوفر القدرة النووية الكامنة نفوذًا أكبر في المفاوضات مع الولايات المتحدة وغيرها من الخصوم. وهكذا، يسري في إيران-عن قصد أو غير قصد- نهج "الكمون النووي" ردًا على التهديدات المتصورة من الولايات المتحدة وإسرائيل في المنطقة. والكمون النووي يعبّر عن "الخيار الياباني" حيث الدول تواجه تهديدات خارجية، وتمتلك القدرة المحتملة على تجميع ترسانة نووية في فترة زمنية قصيرة نسبيًا في حالة وجود تهديد وجودي، لكنها لم تتجه نحو امتلاك أسلحة نووية، ومن هذه الدول اليابان وكوريا الجنوبية وتايوان. وتاليًّا، إيران بدورها قوة نووية يسمح لها ما تمتلكه من "الكمون النووي" بتطوير القدرة على إنتاج أسلحة نووية، وممارسة الردع حتى بدون القيام بذلك فعليًّا. بالنتيجة، تشكّل القوة النووية الكامنة لدى إيران رصيدًا من الردع الكامن تستخدمه إيران في استراتيجيات التوازن الداخلي والخارجي بالاستفادة من نفوذها المتصاعد الناجم عن كونها قوة نووية على عتبة امتلاك السلاح النووي.
خلاصة
نفس امتلاك القدرة على التهديد يشكّل رادعًا، وقدرة إيران على إيصال رسائل التهديد يصب في تطوير الردع الكامن بحيث تدفع الكيان المؤقت والولايات المتحدة إلى العمل وفق احتمال امتلاك السلاح النووي. والقدرة على إيصال رسائل التواصل يدفع الخصم لتصديق إمكانية ذلك، والاعتقاد باحتمالية ذلك وارتفاع نسبتها في لحظة مصيرية معينة. وتكمن فعالية الردع الكامن المدّخر في التأثير على قرارات الخصم حتى مع عدم الاستخدام الفعلي للقدرة على إلحاق التكاليف غير المقبولة، طالما بقيت مشروطة بإدراك الخصم مصداقية التهديد بالضرر. وهي السياسة التي يبدو أن إيران تتقنها حتى الآن، وتمتلك مفاتيح الانتقال من مستوى إلى آخر. حاليًّا، توازن استراتيجية إيران القائمة على الردع الكامن بين فوائد ردع الخصوم واكتساب نفوذ تفاوضي ومخاطر تصعيد التوترات الإقليمية والتدقيق الدولي. يسمح هذا النهج لإيران بالحفاظ على درجة من الغموض الاستراتيجي مع السعي لتحقيق مصالحها الجيوسياسية. هذه الاستراتيجية تظهر فعاليتها، بل وتزداد مع بقاء احتمال تحرّك إيران نحو حيازة القنبلة النووية قائمًا، لكن احتمال إعادة إيران تقييم الاستراتيجية النووية ارتفع بدوره بعد عدوان الكيان المؤقت والتدخل العسكري الأميركي.