حين تُقاس السياسة الخارجية بالقبضات لا بالمبادئ، تصبح الحروب أدوات سياسية، والضحايا مجرد تفاصيل إحصائية. هذا ما يشهده العالم مجددًا بعد قرار الرئيس الأميركي دونالد ترامب بشنّ هجوم مباشر على المنشآت النووية الإيرانية مستخدمًا القاذفات الإستراتيجية "بي-2 سبيريت"، تحت ذريعة "حماية الاستقرار العالمي" – وهي الكذبة الأقدم والأكثر سفورًا في التاريخ الأميركي الحديث.
لكن هذه الضربة لا يمكن عزلها عن السياق المتراكم منذ عقود، ولا عن لحظتها الجيوسياسية الحرجة. فالضربة، في جوهرها، ليست مجرد ردّ عسكري تقني على تهديد نووي مزعوم، بل تتويج لمنظومة متشابكة من الفشل الدبلوماسي، والتبعية "الإسرائيلية"، والانهيار الأخلاقي للسياسة الأميركية، وصولًا إلى لعبة سياسية صرفة تحاول فيها إدارة ترامب كسب رضا نتنياهو واللوبي الصهيوني عبر اللعب بالنار في الخارج.
واشنطن على إيقاع "الاستجداء" الصهيوني
ليست هي المرة الأولى التي تنفّذ فيها واشنطن أجندة تل أبيب على حساب استقرار العالم. لكن اللافت اليوم أن "إسرائيل"، بعدما فشلت عسكريًا في تحقيق أهدافها الاستراتيجية تجاه إيران، وجدت نفسها تُستجدي تدخّلًا أميركيًا مباشرًا أشبه بـ"الضربة القاضية". لقد تحوّل الضعف "الإسرائيلي" من هامش خفي إلى مأزق بنيوي ظاهر، كشفته عجز تل أبيب عن تدمير منشآت نووية كـ"فوردو" و"نطنز"، رغم امتلاكها منظومة تسليح هي الأحدث في الشرق الأوسط.
في هذا المشهد، يتضح أن "إسرائيل الكبرى" التي وعد بها نتنياهو ليست أكثر من سردية هشة، تعتمد على القبة الأميركية الحديدية السياسية، أكثر من اعتمادها على تفوقها العسكري أو شرعيتها الأخلاقية المزعومة. إنها لحظة نادرة يظهر فيها الحليف على حقيقته: تابع استراتيجي لا يستطيع خوض حربه من دون إذن سيده، بل واستدعائه ليمارس الحرب بالنيابة.
ترامب يكرر نموذج العراق: حرب باسم "الردع" وهدفها الهيمنة
إذا كانت حرب العراق عام 2003 قد كُتبت في التاريخ بوصفها فضيحة أخلاقية واستراتيجية، فإن ضربة فوردو عام 2025 هي إعادة إنتاج للفضيحة نفسها، ولكن بأدوات جديدة. ترامب، مثل بوش، يدّعي أن إيران تهدّد الأمن العالمي، لكنه، مثله أيضًا، لم يقدّم أي دليل حقيقي على وجود خطر نووي وشيك.
ما جرى لا يخرج عن كونه تصعيدًا إمبرياليًا آخر، يُدار من البيت الأبيض لأغراض داخلية، بدعم لوبيات الضغط الصهيونية، وجماعات المال والسلاح. فالخطاب الأمني الأميركي لم يكن يومًا منفصلًا عن السوق. والضربة العسكرية ليست قرارًا سياديًا محضًا، بل اتفاق ضمني بين مجمّع الصناعات الدفاعية، والمؤسسة الحاكمة، والإعلام الموجّه، لخلق أزمة تُبرّر الإنفاق وتعيد إنتاج الخوف كوقود للسيطرة.
إيران… حين تتحول الضحية إلى فاعل تاريخي
إيران تعلم أن الحرب الطويلة لا تُخاض عبر مواجهة مباشرة بل عبر إنهاك الخصم. وما تقوم به طهران منذ بدء التصعيد هو رسم ملامح حرب استنزاف إقليمية، يكون فيها الرد على تل أبيب متقطعًا، مدروسًا، وقابلًا للتصعيد عند الحاجة.
بل إن دخول إيران العلني والمباشر إلى معركة ضد الكيان الصهيوني -كأول دولة إسلامية غير عربية تفعل ذلك منذ 1948- يُمثّل تحوّلًا كبيرًا في طبيعة الصراع العربي-الصهيوني. لقد أصبحت القضية الفلسطينية جزءًا من الصراع الإسلامي – لا الفلسطيني أو العربي فقط. وهذا يُعيد رسم خريطة التحالفات في الشرق الأوسط من جديد، ويضعف أطروحة التطبيع باعتبارها ضمانة للاستقرار.
"إسرائيل" في مرمى الداخل والخارج
الصواريخ الإيرانية التي وصلت إلى العمق "الإسرائيلي" لم تضرب أهدافًا عسكرية فقط، بل أصابت سردية "الأمن القومي الإسرائيلي" في مقتل. لأول مرة منذ تأسيس الكيان، يعيش "المواطن الإسرائيلي" على وقع القلق اليومي من سقوط صاروخ في تل أبيب أو حيفا.
لقد انكشفت "أسطورة الجيش الذي لا يُقهر"، واتّضح أن التفوق التكنولوجي لا يمنح الأمن وحده، بل يحتاج إلى شرعية أخلاقية، وعدالة سياسية، وواقع إقليمي غير قابل للاشتعال في كل لحظة.
أما الرهان على ترامب، فهو رهان مكلّف. لأن "إسرائيل"، بتحالفها الأعمى مع إدارته، ربطت أمنها بمصير شخصية سياسية متقلّبة، تحكمها المزاجية والصفقات لا المبادئ ولا الرؤية بعيدة المدى.
أميركا في مواجهة رأيها العام: هل تتكرر فيتنام ثانية؟
الداخل الأميركي لم يعد كما كان. فالحرب في غزة، وتنامي مشاهد المذابح، قد حرّك طبقات عميقة من الوعي داخل المجتمع الأميركي، خاصة في الجامعات والمؤسسات الفكرية. ومع ضرب إيران، تتسع دائرة الغضب لتشمل اليمين المحافظ واليسار الليبرالي في آن.
فالمحافظون يرفضون التدخلات الخارجية لما تخلّفه من أعباء اقتصادية، فيما يعارض الليبراليون هذه الحروب لأسباب إنسانية وأخلاقية. هذا التلاقي، وإن بدا نادرًا، يخلق مناخًا شبيهًا بما حدث إبّان الحرب الفيتنامية أو قبيل الانسحاب من العراق.
السؤال الذي يطرح نفسه بقوة اليوم: هل يستطيع ترامب خوض حرب طويلة في منطقة مشتعلة بينما الاقتصاد الأميركي يئنّ تحت وطأة الديون والانقسام الداخلي؟ وهل ستصمد "إسرائيل" وحدها إذا قرّر ترامب فجأة، كالعادة، الانسحاب وتركها في المواجهة؟
ثلاثة سيناريوهات… بلا نهاية واضحة
في ضوء هذه المعطيات، يمكن قراءة المشهد القادم من خلال ثلاثة سيناريوهات رئيسية:
- الاستنزاف المتبادل: حيث تواصل إيران ضرب أهداف "إسرائيلية" محدودة، وترد تل أبيب بالمثل، في حرب استنزاف مفتوحة يُراد لها أن تطيل الأزمة دون تفجّر شامل. في هذا السياق، قد تلجأ إيران في حال اتساع نطاق الضغوط العسكرية والاقتصادية إلى ورقة مضيق هرمز، أحد أخطر أدوات الضغط الاستراتيجية، في خطوة ستصيب الأسواق العالمية بالشلل وترفع تكلفة الحرب على الجميع. هذا الاحتمال لا يُستبعد إذا ما شعرت طهران بأن كلفة ضبط النفس صارت تفوق كلفة المواجهة.
- الانزلاق الكبير: نتيجة خطأ في الحسابات أو ضربة نوعية مفاجئة قد تنزلق المنطقة إلى مواجهة إقليمية واسعة تشمل الخليج واليمن ولبنان وسوريا، وربما القواعد الأميركية في العراق وقطر. في هذا السيناريو، تُصبح الضربات المتبادلة خارج السيطرة، ويفقد الجميع القدرة على احتواء التصعيد، بما في ذلك القوى الدولية الكبرى.
- التسوية الرمادية: بوساطة دولية (صينية أو روسية أو خليجية) تُفرَض تسوية غير معلنة، لا تقوم على تنازلات إيرانية، بل على تراجع "إسرائيلي" عن بعض أهدافه التوسعية والعسكرية، مع ضمان حق إيران في مواصلة برنامجها النووي السلمي ضمن سقف تقني مضبوط. هذه التسوية، وإن بدت ضئيلة الاحتمال، قد تُطرح على الطاولة إذا ما شعرت واشنطن أن تمديد الحرب يهدد أمن الطاقة العالمي، أو إذا واجهت تل أبيب ضغوطًا داخلية واستنزافًا ماديًا ومعنويًا لا يمكن تحمّله.
لكن أيًّا يكن السيناريو، فإن الحقيقة المؤكدة هي أن الولايات المتحدة، بإدارتها لهذه الضربة، أعادت إشعال برميل بارود إقليمي في لحظة حساسة، وجعلت من نفسها طرفًا مباشرًا في حرب لا يمكن الانتصار فيها بالمعنى التقليدي.
لا سلام بالإملاء… ولا أمن بالقنابل
ما جرى ليس استعراض قوة بقدر ما هو اعتراف بالعجز. الضربة الأميركية ضد إيران تكشف أن واشنطن لم تعد تمتلك القدرة على ضبط توازن المنطقة دون استخدام القوة المباشرة، وأن "إسرائيل" باتت عاجزة عن حماية نفسها حتى داخل حدودها.
إن كانت هذه الضربة تهدف إلى ردع إيران، فقد فشلت كما فشلت الاغتيالات والعقوبات. وإن كانت تسعى إلى فرض معادلة جديدة، فالمعادلات لا تُفرض في الشرق الأوسط بالقنابل بل بتغيير الشروط البنيوية للعدالة.
ما لم يُدركه ترامب ونتنياهو بعد، هو أن الشرق الأوسط قد دخل مرحلة ما بعد الهيمنة، حيث لا أحد يربح كل شيء، ولا أحد يفرض كل شيء، بل الجميع يخسر إن اختاروا الحرب طريقًا والمجازر أداةً والهيمنة غاية.
هذه ليست نهاية لعبة الشطرنج… لكنها بداية انهيار الطاولة.
كاتب صحفي فلسطيني
بكالوريوس في الصحافة والإعلام
دكتوراه في الحقوق
[email protected]