الجمعة 12 أيلول , 2025 04:25

رواية النصر في معركة أولي البأس: الحلقة الأولى

مقاوم في حزب الله

من العام 2000 إلى العام 2024، لم يتوقف الصراع بين المقاومة الإسلامية في لبنان - حزب الله وإسرائيل لحظة واحدة، لكنه اتخذ أشكالاً متعدّدة: حرب شاملة، ردع متبادل، معارك بين الحروب، صراع على الغاز، واستنزاف متواصل. وفي كل محطة، أثبت المقاومة الإسلامية في لبنان قدرتها على الصمود بل وعلى تطوير أدواتها، فيما أظهرت إسرائيل عجزها عن فرض إرادتها.

فبعد التحرير عام 2000، شرع الكيان المؤقت في التحضير لعملية انتقامية شاملة ضد المقاومة، التي حققت أول انتصار على الاحتلال منذ عام 1985. وقد استغلت القيادة الإسرائيلية عملية الأسر في 12 تموز / يوليو 2006 لتسريع تنفيذ خطتها الانتقامية، مقدمة إياها عن موعدها الأصلي المقرر في تشرين الأول من العام نفسه، كما أظهرت لاحقا التقارير ضمن المشروع الأمريكي للمنطقة المعروف بـ "الشرق الأوسط الجديد".

غير أن مآلات الحرب جاءت معاكسة تماما لحسابات إسرائيل؛ بحيث لم تتمكن من تحقيق أي من أهدافها، وحتى هدف إطلاق سراح الأسرى لم يتحقق إلا بعد نحو عامين من وقف الحرب، وليس عن طريق القتال كما أرادت إسرائيل، بل عبر المفاوضات غير المباشرة، تماما كما أراد حزب الله. وخسرت إسرائيل خلال المعارك 121 جنديا معظمهم بالقتال الميداني، وتوقف القصف مع صدور القرار الأممي رقم 1701 القاضي بوقف إطلاق النار في 11 آب / أغسطس 2006، بعد 33 يوما من الإذلال العلني لجيش طالما ادعى أنه لا يُقهر.

حينها صنفت النخب العسكرية والأمنية في كيان الاحتلال حزب الله باعتباره التهديد الاستراتيجي الأكثر تماسكا وتعقيدا في محيط الأراضي المحتلة. وقد تزايد تأكيد هذا التقدير مع تنامي التحذيرات الإسرائيلية من تطوير حزب الله لقدرات عسكرية كاسرة للتوازن. ووفقًا لهذا التصوّر، سعت "إسرائيل" من خلال ما يُعرف بـ "المعركة بين الحروب" إلى محاولة منع تراكم هذه القدرات، تمهيدًا لخوض حرب كبرى تنهيها بالكامل، مستندة في ذلك إلى تقرير فينوغراد لمعالجة الثغرات في الأداء.

ما بعد الحرب: زمن الترميم والردع

منذ آب 2006، انصرف حزب الله إلى مهمتين متوازيتين: ترميم وإعادة إعمار الداخل وإعادة بناء القوة العسكرية. فعلى الصعيد العسكري، كانت المهمة: استيعاب دروس المواجهة، تطوير منظومات الصواريخ، وتوسيع شبكة الدفاعات.

في المقابل، دخلت إسرائيل في أكبر مراجعة عسكرية ـ سياسية منذ 1973. لجان تحقيق، أزمة ثقة داخلية، ووعي متنامٍ بأنّ الجيش الذي قُدّم للعالم على أنّه لا يُقهر، فشل في تحقيق أيّ هدف استراتيجي. منذ تلك اللحظة، باتت تل أبيب مضطرة للتعايش مع حقيقة أنّ شمال فلسطين أصبح رهينة لصواريخ حزب الله، وأنّ أيّ مغامرة مستقبلية ستضع الجبهة الداخلية في قلب الجحيم.

نوايا عدوانية إسرائيلية

في هذا السياق، تُرجمت النوايا العدوانية ضد لبنان ضمن برنامج إعلامي، بدأ أولا عبر تهديدات الخطاب السياسي الرسمي، منذ عام 2008 وحتى عام 2023، والتي تضمنت التهديد باستخدام القوة غير المتناسبة (10 مرات)، التهديد باستهداف الدولة اللبنانية ومؤسساتها (12 مرة) التهديد بإرجاع لبنان إلى العصر الحجري (5) مرات التهديد بالمباغتة الاستباقية (4 مرات)، تحميل الدولة اللبنانية المسؤولية عن تعاظم قوة حزب الله ( 7 مرات)، بالإضافة إلى أكثر من 8 مناورات عسكرية رسمية، بما يشير إلى تحضير الجبهة الداخلية منذ عام 2006 استعدادًا للحرب مع لبنان.

على المستوى الأمني والعسكري، نفّذ الكيان الصهيوني المؤقت سلسلة عمليات اغتيال استهدفت قادة مركزيين في حزب الله من بينهم الشهيد عماد مغنية عام 2008، الشهيد حسان اللقيس عام 2013، منطلقا بتنفيذ المعركة بين الحروب في سوريا لاستهداف عمليات التسليح والنقل. وقد اعتبرت هذه العمليات محطات أساسية لضرب بنية القيادة الميدانية لحزب الله ومحاولة استنزاف تراكمه النوعي. لكن التجربة أظهرت أنّ هذه السياسة لم تنجح في تحقيق أهدافها كاملة. فالصواريخ الدقيقة وصلت، ومصانع التطوير أنشئت، والبنية التحتية العسكرية تعزّزت.

إلى جانب ذلك، حضر الكيان منذ عام 2018 ما عُرف لاحقا بـ "عملية البيجر"، حيث زرعت المتفجرات في آلاف الأجهزة، بما يشمل أكثر من 15,000 جهاز لاسلكي و5,000 بيجر، بنية تفعيلها دفعة واحدة لشل منظومة الاتصال داخل المقاومة.

2011 – 2017 الحرب السورية وتحوّل المعركة

اندلاع الحرب على سوريا مثّل نقطة فاصلة. فالكيان اعتقد أنّ انخراط حزب الله في حرب الدفاع هن سوريا سيُنهكه، وسيؤدي إلى استنزاف قواته وإضعاف جبهته الداخلية. لكن النتائج جاءت معاكسة. صحيح أنّ الحزب قدّم تضحيات هائلة في سوريا، لكنّه في المقابل اكتسب خبرات نوعية غير مسبوقة: من القتال في المدن إلى استخدام الطائرات المسيّرة، ومن التنسيق مع جيوش نظامية إلى مواجهة تشكيلات مسلحة مدعومة من الغرب والخليج.

ومع نهاية العقد الثاني للألفية، ظهر جلياً أنّ حزب الله تجاوز "الخطوط الحمراء" التي رسمتها إسرائيل. فلم يعد الحديث فقط عن صواريخ تقليدية، بل عن منظومة متكاملة من الصواريخ الدقيقة التي تهدّد العمق الاستراتيجي الإسرائيلي: من المطارات والقواعد العسكرية إلى محطات الكهرباء والمرافئ.

وفي أيلول / سبتمبر 2019، عندما أعلن الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله عن امتلاك المقاومة للصواريخ الدقيقة، كان ذلك إعلاناً عن دخول مرحلة جديدة: لم تعد المعادلة تقتصر على "الردع"، بل انتقلت إلى "توازن الرعب". إسرائيل صارت مضطرة للتفكير ألف مرة قبل أيّ عملية عسكرية واسعة.

ثم جاءت عملية أفيفيم (أيلول 2019)، حيث ردّ الحزب على استهداف مقاتليه في سوريا بعملية دقيقة داخل الأراضي المحتلة، ما ثبّت معادلة الرد بالمثل: دم مقابل دم، والاعتداء على مقاتلي الحزب خارج لبنان سيُواجه برد داخل فلسطين المحتلة.

ترسيم الحدود البحرية ومعركة الغاز

أحد أبرز محطات الصراع غير العسكري كان ملف ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل. هنا، لعب حزب الله دوراً حاسماً. عبر المسيّرات والرسائل الميدانية، فرض معادلة جديدة: إما الترسيم بشروط تحفظ للبنان حقوقه، أو الذهاب إلى مواجهة مفتوحة.

انتهى الأمر باتفاق الترسيم في تشرين الأول / أكتوبر 2022، وهو اتفاق لم يكن ليحصل لولا ضغط المقاومة. إسرائيل اضطرت للاعتراف عملياً بقدرة الحزب على تعطيل مشاريع الغاز في المتوسط، وهو ما مثّل انتصاراً سياسياً ـ اقتصادياً للبنان، وإنْ جرى تسويقه أميركياً على أنّه "تسوية".

2023 – 2024: من غزة إلى الجنوب اللبناني

جاءت عملية "طوفان الأقصى" في 7 تشرين الأول 2023 لتفتح فصلاً جديداً. المفاجأة الفلسطينية الكبرى قلبت المعادلات، وأدخلت المنطقة في مرحلة غير مسبوقة. حزب الله لم ينخرط في الحرب بشكل كامل، لكنه فتح جبهة استنزاف على الحدود اللبنانية – الفلسطينية. عمليات القصف المتبادل، استهداف المواقع الإسرائيلية، إدخال المسيّرات، كلها شكّلت ضغطاً هائلاً على الجيش الإسرائيلي الذي اضطر إلى نشر معظم قواته على أكثر من جبهة.

بالنسبة لإسرائيل، كان التحدي مركّباً: مواجهة غير مسبوقة في غزة، معركة استنزاف في الشمال، قلق من جبهة الضفة الغربية، واحتمال انخراط إيران بشكل مباشر. أما بالنسبة لحزب الله، فقد كان الميدان فرصة لتثبيت أنّه قادر على إدارة صراع طويل النفس، وأنّ الجبهة الشمالية باتت سيفاً مسلطاً على رأس إسرائيل في أيّ حرب كبرى.

وعندما قرر حزب الله فتح جبهة الإسناد في أعقاب طوفان الأقصى" التزم بداية بقواعد الاشتباك، فاقتصرت عملياته على الأراضي اللبنانية المحتلة في مزارع شبعا وتلال كفرشوبا، من دون التوسع نحو العمق الفلسطيني المحتل. إلا أن "إسرائيل" ردّت منذ اللحظة الأولى بقصف خارج نقاط الاحتلال، ووسعت تدريجيا عملياتها باتجاه الجنوب اللبناني واغتالت قادة ميدانيين وصولاً إلى مدينتي صيدا وبيروت في هذا السياق، أخلت "إسرائيل" المستوطنات الشمالية المحاذية للحدود خشية من تكرار عملية 7 أكتوبر على الجبهة الشمالية مستخدمة هذا الإخلاء لاحقا كذريعة مركزية لتبرير الحرب.

أيلول 2024: توازنات جديدة وصراع مفتوح

بحلول أيلول 2024، بات المشهد أكثر وضوحاً: إسرائيل غارقة في أزماتها الداخلية والخارجية، غير قادرة على حسم معركة غزة، ومضطرة للتعامل مع جبهة شمالية تستنزفها يومياً. حزب الله من جهته رسّخ صورته كقوة إقليمية تتجاوز حدود لبنان، يوازن بين دعم غزة وترك مجال للمواجهة الكبرى في حال توسعت الحرب.


الكاتب: غرفة التحرير




روزنامة المحور