الخميس 14 آب , 2025 03:48

من النيل إلى الفرات: نتنياهو يعلن الحرب على خرائط سايكس بيكو

نتنياهو وخريطة "إسرائيل الكبرى"

حين يعلن "رئيس وزراء إسرائيل" بنيامين نتنياهو التزامه العميق برؤية "إسرائيل الكبرى" الممتدة بين النيل والفرات، لا يمكن النظر إلى ذلك كحدث منفصل أو انفعال ظرفي. ما قاله نتنياهو لشبكة i24 لم يكن سوى إفصاح مباشر عن حقيقة كامنة منذ نشأة المشروع الصهيوني، وهو ارتباطه العضوي بالمخطط الإمبراطوري الغربي، وبالأخص الأميركي، الذي يرى في إسرائيل قاعدة متقدمة لضبط الشرق الأوسط.

هذه الرؤية ليست "جديدة"، لكنها تخرج الآن إلى العلن لأن البيئة الإقليمية والدولية تسمح بذلك: انقسام عربي، انهيار منظومات الردع العربي، وغطاء أميركي كامل. في الخطاب الأميركي، تُسوَّق "إسرائيل" على أنها "الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط"، لكن في البنية العميقة للسياسة، هي كيان توسعي استيطاني يعتمد على القمع العسكري والسيطرة على الموارد.

الحديث عن "أرض الميعاد" ليس مجرد سردية دينية، بل أداة سياسية تُستخدم لإضفاء شرعية أخلاقية مزيفة على التوسع. تماماً كما استُخدمت أساطير "الاكتشاف" لتبرير إبادة السكان الأصليين في أميركا الشمالية، تُستخدم اليوم الأساطير التوراتية لتبرير قضم الأرض الفلسطينية، وتهديد الأردن ومصر ولبنان وسوريا.

والأخطر أن نتنياهو لا يخاطب الداخل "الإسرائيلي" فقط، بل أيضاً جمهور اليمين المسيحي المتطرف في الولايات المتحدة، الذي يرى في "إسرائيل" أداة لتحقيق نبوءاته حول نهاية العالم. هنا تتقاطع الأيديولوجيا الدينية مع المصلحة الإستراتيجية: "إسرائيل" قوة استعمارية محمية من المساءلة، مدعومة بتمويل وسلاح غربي، وتعمل على إعادة تشكيل الجغرافيا السياسية للمنطقة لصالح هيمنة واشنطن.

من هذا المنظور، فإن تصريحات نتنياهو ليست انحرافاً، بل انسجام كامل مع الدور المرسوم "لإسرائيل" منذ 1948: التوسع حين تسمح الظروف، وتثبيت المكاسب عبر اتفاقيات سلام مفخخة، واستخدام القوة العسكرية حين تتبدد فرص المساومة.

التحولات البنيوية للمجتمع "الإسرائيلي"

ما نراه اليوم ليس مجرد سياسة نتنياهو، بل انعكاس لتحوّل بنيوي عميق داخل المجتمع "الإسرائيلي". في العقود الأولى بعد قيام "الدولة الصهيونية"، كان هناك توازن هش بين التيار الصهيوني العلماني والتيارات الدينية. لكن هذا التوازن بدأ يتلاشى مع تحولات ديموغرافية وثقافية واضحة: ارتفاع نسبة الحريديم والمستوطنين ذوي النزعة الدينية القومية، وتراجع دور النخب العلمانية الأشكنازية التي أسست الدولة.

"إسرائيل" التي يتحدث باسمها نتنياهو الآن ليست هي "إسرائيل" بن غوريون أو رابين. هذه دولة جديدة في طور التشكل، تتحرك نحو ثيوقراطية قومية، حيث تندمج القومية المتطرفة مع النصوص الدينية لتصبح مرجعية الدولة في السياسة الخارجية.

إحصائياً، فإن الأجيال "الإسرائيلية" الجديدة أكثر تديناً وأشد ميلاً نحو التوسع، وهو ما يفسر أن تصريحاً خطيراً كتصريح نتنياهو لا يثير صدمة داخلية واسعة، بل يجد صدى إيجابياً في قطاعات كبيرة من المجتمع. المجتمع "الإسرائيلي" لم يعد يرى السلام كخيار إستراتيجي، بل كهدنة مؤقتة تُستغل لترسيخ السيطرة.

هذا التحول ينعكس أيضاً في بنية الجيش والمؤسسات الأمنية، حيث يتزايد حضور الضباط المنحدرين من أوساط المستوطنين، ما يعني أن عقيدة "إسرائيل الكبرى" تتحول تدريجياً إلى جزء من الثقافة المؤسسية للدولة.

وبالنظر إلى التاريخ، فإن مثل هذه التحولات الأيديولوجية غالباً ما تقود إلى مغامرات عسكرية. ومع الانكماش الديموغرافي للعرب المسيحيين في المشرق، وتفكك بعض الدول المحيطة، تبدو الفرصة سانحة أمام اليمين "الإسرائيلي" لفرض واقع جديد. تصريحات نتنياهو إذن ليست شطحة، بل انعكاس لميل اجتماعي متصاعد نحو التوسع، وربما نحو حرب إقليمية إذا شعر القادة "الإسرائيليون" أن الظروف الدولية ملائمة.

الإنذار العربي والمقاومة

من زاوية عربية، فإن ما قاله نتنياهو يمثل إعلان حرب، لا مجرد خطاب سياسي. هذا الرجل، الذي يتقن فن المناورة والابتزاز السياسي، قرر أن يخلع القناع الليبرالي المزعوم، ويعلن التزامه الأيديولوجي بـ"إسرائيل الكبرى". الرسالة واضحة: لا حدود نهائية، ولا شريك عربي في السلام، بل مشروع توسعي يرى في غزة والضفة والأردن وسيناء ولبنان وسوريا مجرد ساحات مفتوحة للضم أو الهيمنة.

إن قراءة هذا الموقف لا تنفصل عن حرب الإبادة الجارية في غزة. غزة اليوم ليست مجرد قضية فلسطينية، بل خط الدفاع الأول عن مصر والأردن، وعن أي إمكانية لإبقاء المشروع الصهيوني محصوراً داخل فلسطين التاريخية. فشل الاحتلال في كسر إرادة المقاومة هناك سيدفعه للبحث عن انتصار في مكان آخر، ربما سوريا أو حتى سيناء قد تكون أحد السيناريوهات المطروحة في عقلية نتنياهو الجديدة.

الأردن التقط الإشارة سريعاً واحتج رسمياً، لأنه يعرف أن خريطة "إسرائيل الكبرى" التي لوّح بها شارون غال في المقابلة تشمل أجزاء واسعة من أراضيه. لكن الخطر الحقيقي أن يقابل هذا الموقف ببرود رسمي عربي، أو باكتفاء بالتنديد اللفظي، ما سيغري نتنياهو بالمضي أبعد في التنفيذ.

إن الرد الحقيقي لا يكون عبر المؤتمرات الصحفية، بل بكسر الحصار عن غزة فوراً، وتوحيد الموقف العربي والإسلامي حول استراتيجية ردع عملية. هذا ما يفهمه نتنياهو جيداً: حين يتوحد الخصوم، يصبح المشروع التوسعي عبئاً على "إسرائيل" لا مكسباً لها.

لكن إذا استمرت حالة الانقسام والتطبيع، فإن خطاب "إسرائيل الكبرى" سيتحول من شعار إلى برنامج عمل رسمي. عندها لن تكون حرب غزة سوى المرحلة الأولى في مخطط يطال كل دول الطوق.

في النهاية؛ نحن أمام إنذار مفتوح للعرب: إما الرد العملي أو مواجهة تمدد صهيوني مباشر نحو العواصم.

تصريحات نتنياهو إذن ليست حادثاً لفظياً، بل مؤشر على مرحلة جديدة في "الصراع العربي الإسرائيلي"، مرحلة تُستبدل فيها "الواقعية السياسية" بالهوس الأيديولوجي، وتُستبدل فيها خطوط سايكس بيكو بخريطة توراتية يراد فرضها بالقوة.

وإذا كان نتنياهو يرى نفسه في مهمة "تاريخية وروحانية"، فإن مسؤولية المنطقة – دولاً وشعوباً – أن تثبت له أن هذه المهمة مستحيلة التحقيق، وأن خريطة "إسرائيل الكبرى" لا مكان لها إلا في أوهام من يظنون أن التاريخ يكتبه السيف وحده.


الكاتب:

د.محمد الأيوبي

كاتب صحفي فلسطيني
بكالوريوس في الصحافة والإعلام
دكتوراه في الحقوق
[email protected]




روزنامة المحور