تتبع أمريكا نهجاً متناقضاً تجاه الحرب في غزة، حيث يقوم على مبدأ الدعم العسكري غير المشروط لكيان الاحتلال والضغط المعلن من أجل الحد من الأضرار الإنسانية. ما يشير إلى أن السياسة الأمريكية تعاني من عدم اتساق استراتيجي وأخلاقي، وهذا ما يناقشه المقال الذي نشره موقع "ذا ناشيونال انترست" وترجمه موقع الخنادق الإلكتروني. فهي تحاول التوسط بين "إسرائيل" وحماس رغم محدودية نفوذها وفقدان مصداقيتها، ما يؤدي إلى إخفاقات دبلوماسية متكررة، كما ظهر في مفاوضات وقف إطلاق النار الأخيرة في قطر.
كما يوضح المقال أن الاعتماد الأمريكي على الحلول الخارجية وحدها لا يعالج الجذور الهيكلية للصراع الإقليمي، وأن النزاعات في الشرق الأوسط غالباً ما تحتاج إلى حلول إقليمية بدلاً من محاولة واشنطن فرض الحلول أو تقديم نفسها كوسيط لا غنى عنه.
بالإضافة إلى ذلك، يشير المقال إلى أن فهم الديناميات الإقليمية يتطلب الاعتراف بأن مقاييس القوة على الأرض والضمانات المحلية تلعب دوراً أكبر من أي ضغوط دبلوماسية أمريكية. ويخلص إلى أن النهج الأمريكي يحتاج إلى إعادة تقييم جذري مبنية على الواقعية الاستراتيجية، مع التركيز على مصالح محددة حقيقية، بدلاً من وهم السيطرة أو الحلول الشاملة التي ثبت فشلها مراراً.
النص المترجم:
النهج الأمريكي تجاه حرب غزة الدعم غير المشروط ل"إسرائيل" مع ممارسة ضغط عام من أجل ضبط الأضرار الإنسانية ليس نهجاً استراتيجياً ولا متسقاً أخلاقياً.
مع انقشاع الغبار بعد جولة جديدة من مفاوضات وقف إطلاق النار الفاشلة بين "إسرائيل" وحماس، وجدت الولايات المتحدة نفسها تقطع مفاوضات وقف النار في غزة وتعيد فريقها التفاوضي إلى الوطن من قطر بعد اتهام حماس بـ "عدم حسن النية". ويتبع ذلك منح "إسرائيل" الضوء الأخضر لمواصلة عمليتها العسكرية في غزة.
هذا النمط المألوف من المسرح الدبلوماسي، الذي يُقنع أنه صناعة دولة جدية، يكشف عن التناقضات الجوهرية في السياسة الأمريكية تجاه غزة وفي الواقع، تجاه الشرق الأوسط الأوسع.
لقد تعاملت إدارة بايدن، والآن إدارة ترامب، مع أزمة غزة بنفس المزيج من الموقف الأخلاقي المتصنع وعدم الاتساق الاستراتيجي الذي ميّز السياسة الأمريكية تجاه الشرق الأوسط لعقود. إصرار واشنطن على وضع نفسها كوسيط لا غنى عنه بين "إسرائيل" وحماس لا يعكس حكمة استراتيجية. بل يكشف ببساطة عن استمرار افتراضات قديمة حول النفوذ الأمريكي والديناميات الإقليمية.
وهم المركزية الأمريكية
يسلط انهيار مفاوضات وقف إطلاق النار الأخيرة في الدوحة الضوء على الحقيقة القاسية التي يبدو أن صانعي السياسة الأمريكيين مترددون في الاعتراف بها: الولايات المتحدة لم تعد القوة الرئيسية المحركة للسياسة في الشرق الأوسط.
لا يمكن للولايات المتحدة أن تأمل في لعب دور الوسيط النزيه بينما تستخدم حق النقض ضد قرارات مجلس الأمن التي تطالب بوقف دائم لإطلاق النار في غزة وتدعم السياسات الإسرائيلية بلا قيد أو شرط.
تشير الاستراتيجية الظاهرة لحماس، التي تركز على إعادة توجيه الاهتمام والموارد نحو واجبها العقائدي في الجهاد ضد "إسرائيل"، إلى أن المنظمة تنظر إلى النزاع الحالي من منظور مختلف جذرياً عن منظور المفاوضين الأمريكيين. بالنسبة لحماس، القدرة على "رفع أعلامها في غزة" بعد أشهر من الحرب المدمرة تُعتبر انتصاراً استراتيجياً يتجاوز الخسائر التكتيكية الفورية.
هذا الانفصال بين الأطر الدبلوماسية الأمريكية والواقع الإقليمي له تداعيات عميقة. عندما تتضمن مقترحات وقف إطلاق النار جداول معقدة لإطلاق سراح الرهائن على مدى 60 يوماً، فإنها تعكس عقلية البيروقراطية الدبلوماسية الأمريكية أكثر من كونها تمثل الحسابات الوجودية للفاعلين الفعليين على الأرض.
السياق الإقليمي: ما وراء قطاع غزة
لا يمكن فصل السياسة الأمريكية تجاه غزة عن الديناميات الإقليمية الأوسع التي غالباً ما تغيب عن إدراك واشنطن. الطبيعة الدورية لوقف إطلاق النار وتجدد الصراعات لا تعكس فقط استحالة حل النزاع الإسرائيلي-الفلسطيني، بل تشير أيضاً إلى فشل السياسة الأمريكية في معالجة القضايا الهيكلية الأساسية.
مثلت اتفاقيات أبراهام لحظة وجيزة من الوضوح الاستراتيجي في السياسة الأمريكية تجاه الشرق الأوسط، إذ اعترف الاتفاق بأن التطبيع العربي-الإسرائيلي يمكن أن يمضي قدماً دون حل القضية الفلسطينية. ومع ذلك، كشفت أزمة غزة عن حدود هذا النهج، حيث تستمر الديناميات الإقليمية في التشكل وفق صراعات غير محلولة فشلت الدبلوماسية الأمريكية باستمرار في معالجتها.
التعامل الواقعي
سيكون النهج الأمريكي الأكثر واقعية تجاه غزة مبنياً على الاعتراف بحدود النفوذ الأمريكي وطبيعة الدبلوماسية الشكلية التي قد تكون مضرة أكثر من نفعها. فبدلاً من وضع نفسها كوسيط لا غنى عنه في صراعات تفتقر فيها واشنطن إلى الأدوات والمصداقية للنجاح، يجب أن تركز السياسة الأمريكية على:
تشجيع القوى الإقليمية مثل مصر، الأردن، السعودية، وحتى تركيا على تحمل مسؤولية أكبر تجاه حكم الفلسطينيين وإعادة الإعمار. فقد انتهى زمن الوهم الذي يعتقد أن التدخل الأمريكي ضروري لحل المشكلات في الشرق الأوسط.
دعم الترتيبات الاقتصادية التي تخلق علاقات مصالح متبادلة بين الفلسطينيين والدول العربية المجاورة.
الاعتراف بأن ليس كل صراع إقليمي يتطلب تدخلاً أمريكياً، وأن رأس المال الدبلوماسي الأمريكي غالباً ما يكون من الأفضل حفظه لقضايا تمتلك فيها واشنطن نفوذاً حقيقياً ومصالح استراتيجية واضحة.
ثمن عدم الاتساق الاستراتيجي
النهج الأمريكي الحالي تجاه غزة الذي يجمع بين الدعم غير المشروط للعمليات العسكرية الإسرائيلية مع ممارسة الضغط العام من أجل ضبط الأضرار الإنسانية لا يحقق أياً من المنطق الاستراتيجي أو الاتساق الأخلاقي. هذا النهج ينعزل به الشركاء الإقليميون بينما يفشل في تحقيق الأهداف الإنسانية المعلنة، ويستمر في دورة الصراع نفسها من خلال تجنب الأسئلة الصعبة حول الترتيبات الإقليمية طويلة المدى.
تمثل وقفات إطلاق النار المؤقتة التي ظهرت مجرد توقفات تكتيكية وليست حلولاً استراتيجية، وذلك إلى حد كبير لأن السياسة الأمريكية لا تزال تعالج الأعراض بدلاً من معالجة الأسباب الجوهرية. لقد ثبت مراراً أن الافتراض القائل بأن الضغط الأمريكي الكافي يمكن أن يغير الحسابات الأساسية للفاعلين الإقليميين غير صحيح، ومع ذلك يواصل هذا الافتراض توجيه السياسة الأمريكية.
البديل عن هذا النهج ليس الانسحاب الأمريكي من الشرق الأوسط، بل تبني شكل أكثر انتقائية وفعالية من المشاركة مبني على مصالح استراتيجية حقيقية بدل وهم عدم الاستغناء عن التدخل الأمريكي. وحتى يطور صانعو السياسة الأمريكيون الصدق الفكري لتمييز ما يمكنهم السيطرة عليه وما لا يمكنهم، ستستمر الإخفاقات الدبلوماسية مثل مفاوضات وقف إطلاق النار الأخيرة في غزة في تحديد سياسة الولايات المتحدة تجاه الشرق الأوسط.
المصدر: The National Interest
الكاتب: Leon Hadar