شكّل نظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا تجسيدًا صارخًا للتمييز العنصري المُمأسس، حيث سيطرت أقلية بيضاء على الغالبية السوداء عبر منظومة قانونية وأمنية هدفت إلى إقصائهم من مواقع النفوذ والسيطرة على الأرض والثروات. وعلى الرغم من عنف القمع، واجه هذا النظام مقاومة داخلية عنيدة، ترافقت مع ضغوط دولية متصاعدة، أبرزها حملات المقاطعة، وسحب الاستثمارات، وفرض العقوبات، ما أدى في نهاية المطاف إلى انهياره مطلع التسعينيات تحت ضغط العزلة الدولية والسقوط الأخلاقي والسياسي.
اليوم، تتجه الأنظار إلى الكيان الإسرائيلي، بوصفه نظامًا استيطانيًا استعماريًا يمارس شكلًا ممنهجًا من الفصل العنصري ضد الشعب الفلسطيني، لا سيما في الضفة الغربية وقطاع غزة. فهذا النظام لا يكتفي بالاحتلال العسكري، بل يُحكم السيطرة عبر بنية قانونية وأمنية تعمل على إقصاء الفلسطينيين، وتفريغ الأرض من سكانها الأصليين، وفرض هيمنة عرقية تتجاوز ممارسات الاحتلال التقليدي.
في هذا السياق، تبرز نظرية "الاستعمار الاستيطاني" بوصفها أداة تحليلية محورية لفهم طبيعة المشروع الصهيوني، الذي يسعى، ليس فقط إلى إخضاع السكان الأصليين، بل إلى إحلال المستوطن مكانهم، عبر التهجير القسري، التجويع، الحصار، وتفكيك البنية المجتمعية والاقتصادية للفلسطينيين.
ما يجري في غزة اليوم من حصار وتجويع ممنهج، وحرمان متعمّد من المساعدات، وقتل واسع للمدنيين، وما يجري في الضفة الغربية من توسّع استيطاني متواصل، يُعدّ تجسيدًا حيًّا لهذه المنظومة الإقصائية العنيفة. وقد وصفت منظمات حقوقية دولية كبرى، مثل "هيومن رايتس ووتش" و"منظمة العفو الدولية"، السياسات الإسرائيلية بأنها ترقى إلى جريمة فصل عنصري وفقًا لتعريف الاتفاقية الدولية لقمع جريمة الأبارتهايد لعام 1973، ونظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية.
وتأتي المبادرات القانونية المتقدمة لتعزز هذا المسار؛ ففي فرنسا، تقدم 114 محاميًا بدعوى أمام المحكمة الجنائية الدولية ضد الرئيس إيمانويل ماكرون ومسؤولين حكوميين كبار، بتهم تتعلق بالمشاركة في جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، بل وجرائم إبادة، نتيجة دعمهم للعدوان الإسرائيلي على الفلسطينيين. وقد حظيت هذه الخطوة بدعم برلماني من نواب الجبهة الشعبية اليسارية، ما يعكس اتساع الهوّة بين الموقف الرسمي الفرنسي والرأي العام الشعبي والحقوقي.
هذا التحرّك لا يُدين الاحتلال الإسرائيلي فحسب، بل يسلط الضوء على تواطؤ بعض القوى الغربية، ويستدعي إلى الذاكرة المساءلات القانونية التي طالت نظام الأبارتهايد في جنوب إفريقيا وداعميه. واليوم، مع تزايد الضغوط الدولية، يبرز تطور نوعي في مسار المحاسبة، حيث بدأت تُوجَّه التهم أيضًا إلى الدول المتواطئة بالصمت أو بالدعم المباشر، في مشهد يعيد إنتاج السيناريو الجنوب أفريقي.
إن المقارنة بين الكيان المؤقت ونظام الأبارتهايد لا تنحصر في تشابه الممارسات، بل تمتد إلى تماثل في البنية الفكرية والقانونية، حيث يُسخّر القانون لخدمة الإقصاء العرقي، وتُمارَس القوة لتكريس الهيمنة الاستيطانية، وتُشيطن المقاومة في خطاب دولي غير متوازن.
تهدف هذه الدراسة المرفقة أدناه إلى تحليل أوجه التقاطع بين النظامين، من خلال استعراض السياقات التاريخية، ووسائل المقاومة، والأطر القانونية، واستشراف إمكانية تكرار سيناريو العزلة الدولية التي أطاحت بنظام بريتوريا.
لتحميل الدراسة من هنا