الأربعاء 30 تموز , 2025 03:11

بين التراجع والمواجهة: كيف تصنع الجماهير مسارات الأزمات؟

مظاهرات في إسرائيل

في مقاله "الجماهير السياسية الداخلية وتصعيد النزاعات الدولية"، يطرح جيمس د. فيرون نموذجًا تحليليًا يفسر كيف تؤثر الضغوط الداخلية التي يواجهها القادة – وخاصة في الأنظمة الديمقراطية – في ديناميكيات الأزمات الدولية. يرى فيرون أن الأزمات ليست مجرد مواجهات بين الدول على الأرض أو في ميزان القوى، بل هي حروب استنزاف سياسية تُخاض أمام جمهور داخلي يُراقب أداء القيادة ويحكم عليه، مما يخلق "تكاليف جماهيرية" عالية في حال تراجع القادة بعد التصعيد.

يُقدّم فيرون الأزمات الدولية كنمط من المنافسة السياسية العلنية، حيث تختار الدول في كل لحظة بين ثلاث خيارات: التصعيد، أو التراجع، أو الهجوم. وكلما طال أمد الأزمة وتزايد الطابع العلني لها، كلما زادت التكاليف السياسية للتراجع، ما يدفع القادة إلى التصلّب في مواقفهم خوفًا من فقدان مصداقيتهم أمام الجمهور المحلي.

واحدة من أهم فرضيات النموذج التي يختبرها فيرون، هي أن الدول التي تمتلك جماهير سياسية داخلية قوية (مثل الديمقراطيات) تكون أقل ميلًا للتراجع خلال الأزمات من الدول السلطوية، لأن قادتها يواجهون تكاليف جماهيرية أعلى إذا ما فشلوا في تحقيق أهدافهم أو تراجعوا عن تهديداتهم. وبالتالي، يُصبح التصعيد في الأزمة، وإن كان مكلفًا، أداة لإرسال إشارات أكثر مصداقية حول النوايا الحقيقية للدولة.

ويبيّن النموذج أن الخطر الأكبر في الأزمات لا يكمن فقط في استخدامها للعنف، بل في تحولها التدريجي إلى لحظات "انغلاق سياسي"، حيث يصبح من الصعب على أحد الطرفين التراجع بسبب الالتزامات العلنية التي تم اتخاذها. وعندما يبلغ التصعيد مستوى "الأفق"، تصبح الحرب حتمية، لأن القادة – خوفًا من خسارة دعمهم الداخلي – يفضّلون خوض الحرب على التراجع.

كما يستعرض المقال نتائج تحليلية دقيقة، توضّح أنّ ميزان القوى أو المصالح النسبية لا يحدد بمفرده الطرف الأرجح للتراجع في النزاع. بل العكس، فالدولة الأضعف عسكريًا قد تقاوم خصمًا أقوى إذا كانت تملك إرادة صلبة وتكاليف جماهيرية مرتفعة. وهذا يفسّر لماذا تفشل أحيانًا الحسابات التقليدية القائمة على القوة المادية في التنبؤ بمخرجات الأزمات الدولية.

ويقدّم فيرون طرحًا مثيرًا حول الفروق بين الأنظمة الديمقراطية والسلطوية في هذا السياق. فالديمقراطيات، بحكم الطبيعة الشفافة لنظامها السياسي وتعدد قنوات المحاسبة، تميل إلى استخدام الإشارات الأكثر وضوحًا والمصداقية في الأزمات، مما يجعلها أقل ميلًا إلى الخداع أو "التهديد ثم التراجع"، مقارنةً بالأنظمة السلطوية.

من الناحية التقنية، يُميّز فيرون بين ما يصفه بـ"حرب الاستنزاف السياسية" والأشكال التقليدية لنموذج الاستنزاف الذي طوّره اقتصاديون وعلماء أحياء. ففي الأزمات الدولية، لا يملك القادة خيار الاستمرار أو الانسحاب فقط، بل أيضًا خيار الهجوم العسكري المباشر. كما أن التكاليف لا يتحمّلها الطرفان دائمًا بالتساوي، بل غالبًا يتحمّلها فقط الطرف الذي يقرر التراجع، نظرًا للمحاسبة السياسية من الجمهور الداخلي.

ويؤكد فيرون أنّ وجود هذه التكاليف وخيار الهجوم يخلق ديناميكيات مختلفة تمامًا، ويولّد احتمالية تصعيد خطير حتى بلوغ نقطة اللاعودة. لكن، في الوقت نفسه، فإن هذه التكاليف قد تساعد على تجنّب الحرب، إذا استخدمت كإشارات تُبيّن بوضوح تفضيلات كل طرف، ما قد يدفع إلى تسوية تفاوضية قبل فوات الأوان.

في ختام المقال، يدعو فيرون إلى إعادة النظر في الطريقة التي نفهم بها الحروب والأزمات، مشيرًا إلى أن التحليل العقلاني للسلوك السياسي لا يمكن أن يتجاهل الضغوط الداخلية، بل يجب أن يدمجها كعنصر أساسي لفهم قرارات القادة في السياسة الخارجية. ويُعدّ هذا الإطار التحليلي أساسًا لفهم ما يُعرف اليوم بـ"نظرية التكاليف الجماهيرية"، التي أصبحت من أبرز أدوات تحليل السلوك الاستراتيجي في العلاقات الدولية.
بالخلاصة، يركّز جيمس فيرون على دور الجمهور الداخلي في صنع القرار الخارجي، مبينًا كيف أن الأزمات الدولية ليست مجرد نزاع بين دول، بل مواجهة تُراقبها الشعوب، ما يفرض على القادة قيودًا سياسية تجعل قراراتهم أكثر التزامًا أو خطرًا. ويقدّم مقاله مساهمة فكرية مركزية لفهم أسباب الحرب، ولماذا لا تكون كل أزمة قابلة للتسوية ببساطة.

لتحميل الدراسة من هنا


المصدر: جيمس د. فيرون- جامعة شيكاغو




روزنامة المحور