في كل حرب، هناك مشهدان متوازيان: مشهد يملأ الشاشات بالدمار، وآخر صامت، ينحت في الظل ملامح الانتصار القادم. في غزة، حيث تختلط عبقرية الأرض مع شراسة الحصار، لا يُقاس وزن الرجال بعدد ظهورهم، بل بعمق ما يتركونه من أثر في العقول والساحات. هناك، رجالٌ لا نعرف عنهم إلا القليل، لأنهم اختاروا أن يكونوا الفكرة لا الصورة، وأن يكتبوا أسماءهم بالحكمة قبل الرصاص. واحد من هؤلاء، هو أبو عمر السوري.
حين يصبح العقل هدفًا للقتل
الاغتيال، في معناه السياسي، ليس فقط تصفية جسدية، بل هو إعلان إفلاس حضاري من قبل قوى الاستعمار حين تعجز عن كسر المقاومة فتُصوّب رصاصها نحو العقول. في غزة، حين أعلنت “إسرائيل” اغتيال حكم العيسى المعروف بـ"أبو عمر السوري"، لم تكن تصف فقط عملية عسكرية ناجحة من وجهة نظرها، بل كانت تعترف – من حيث لا تدري – بأنها واجهت عقلًا استثنائيًا هزّ منظومتها العسكرية والأمنية.
في السطور التالية، سنحاول الغوص في سيرة هذا القائد الصامت، الذي مهّد بعقله وروحه وأفكاره لمعركة غير مسبوقة في تاريخ الصراع مع الاحتلال، وترك بصمته على جيل كامل من المقاتلين الذين حوّلوا قطاعًا محاصرًا إلى مصنع للدهشة والمباغتة.
من الهند إلى غزة: الرحلة نحو الفكرة
ولد حكم العيسى عام 1967 في الكويت، لطفل فلسطيني ينتمي لقرية "رامين" في قضاء طولكرم بالضفة الغربية المحتلة، في مرحلة كانت الهزيمة العربية الكبرى (نكسة 67) تصوغ وعي جيلٍ بأكمله. تلقى تعليمه الجامعي في مدينة بوبال بولاية ماديا برادش الهندية، وهناك بدأت ملامح وعيه الجهادي، لا من خلال كتب الجغرافيا السياسية فقط، بل عبر مسارٍ عمليّ بدأ بتدريب عسكري في خوزستان الإيرانية، ثم تنقّل عبر ساحات المقاومة: من الشيشان، إلى سوريا، إلى لبنان، ثم استقر في غزة بعد انسحاب الاحتلال من مستوطناته عام 2005.
كانت غزة هي المختبر الأخير لأفكاره، ولكنها لم تكن المحطة الأخيرة لحضوره، بل صارت بوابة عبوره إلى ما يشبه الخلود في ذاكرة المقاومة.
التواضع في الظل: القائد الذي رفض الضوء
في عالم تُصنع فيه البطولات أحيانًا على صفحات الإعلام أكثر من ساحات القتال، اختار أبو عمر أن يكون نقيض هذا التيار. عرفه المقاتلون بأسماء مستعارة: "أبو عماد"، "أبو محمود"، و"أبو المواقع"، ولم يظهر يومًا على شاشة، ولم تُرَ له صورة إلا بعد استشهاده. ولكن، كل من اقترب من الأكاديميات العسكرية التابعة للقسام، أو من ساحات التدريب المتقدمة، كان يشعر بظلّه حاضرًا، بتوقيعه واضحًا على كل تطوير، وخطة، وسلاح.
عمله لم يكن تنظيميًا فقط، بل كان فكريًا. أعاد صياغة منهجية القرار العسكري في كتائب القسام، وابتكر منظومة تدريب قائمة على الاستفادة من التجارب العسكرية العالمية، بما في ذلك التي خَبِرها في الشيشان وسوريا ولبنان، وربما تأثر أيضًا بنموذج الحرس الثوري الإيراني في الجمع بين الأيديولوجيا والانضباط التقني.
العقل المفكّر للمقاومة: هندسة العمل العسكري
حين تتحدث أوساط القسام عن "نقلة نوعية"، فإنها تشير إلى مرحلة أصبح فيها التنظيم العسكري أكثر تعقيدًا واحترافًا. في هذا السياق، كان أبو عمر السوري هو من زرع البذرة الأولى لمركزية التخصصات العسكرية، فأنشأ أكاديمية للتدريب، قاد سلاح الدفاع الجوي، وأشرف على تطوير أسلحة المدفعية والهندسة والدروع والقنص.
لم يكن قائدًا ميدانيًا فقط، بل كان عضوًا في المجلس العسكري الأعلى، ومسؤولًا عن ركنَي الاستخبارات والعمليات في وقتٍ لاحق، وهي مواقع تؤشر إلى حجم الثقة التي منحها إياه الشهيد محمد الضيف ورفاقه، ليس فقط لخبرته، بل لرؤيته الطويلة النفس.
وربما تكمن أهمية العيسى في قدرته على الدمج بين العقل والفعل، بين النظرية والتطبيق، في سياق قاسٍ كغزة، حيث تشحّ الموارد وتكثر المخاطر وتتعقّد الأرضية الأمنية.
طوفان الأقصى: تتويج لفكر العيسى
عندما هزّت عملية "طوفان الأقصى" في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023 عمق "الكيان الإسرائيلي"، لم تكن مجرد نتيجة لحظة مفاجئة، بل ثمرة سنوات من التدريب والتخطيط والبرمجة العقلية للجهاز العسكري القسامي. يشير كثيرون إلى أن أبا عمر السوري كان من أبرز مهندسي تلك المعركة، ليس من باب التنفيذ المباشر، بل عبر وضع اللبنات الأساسية لعقيدة هجومية دفاعية هجينة، تُباغت العدو في الداخل وتحمي القطاع في آن.
كان يعرف، كباقي قادة المقاومة الكبار، أن "الطوفان" لا يُبنى في شهر، بل يُهندس على مدار سنوات من الصبر، والتخطيط، والتعليم، والتضحية.
شهادته: إعلان فشل "إسرائيل" في كسر الإرادة
في 28 يونيو/حزيران 2025، أعلن الاحتلال الإسرائيلي اغتيال "أبو عمر السوري" مع زوجته وحفيدته في غارة استهدفته في مدينة غزة. لكن ما لم تُعلنه تل أبيب، هو أنها باغتياله لم تكسر منظومةً، بل اختبرت إلى أي مدى باتت مقاومة غزة محصّنة بعقول لا تُقهر. حين يستشهد رجلٌ كهذا، يكون السؤال الحقيقي: كم من أمثاله صنع؟ وكم فكرة أطلقها قبل أن يرحل؟
كان يقول: "لا خروج من غزة بعد الدخول إليها مع زوجتي وأطفالي صغارًا إلا إلى الضفة المحتلة محرِّرًا أو للفردوس الأعلى محلّقًا". وقد حلّق فعلًا. لم يذهب إلى الضفة، لكنه وضع لها الخطة.
استشهاد الفكر لا يعني موته
في زمن تهرول فيه الأنظمة نحو التطبيع وتذرف فيه المنظومات الغربية دموع التوازن المزيّف، يقف رجل كأبي عمر السوري شاهدًا على معنى آخر للفعل السياسي المقاوم. لقد قدّم نموذجًا لما يمكن للعقل العربي المسلم أن يصنعه حين يتحرر من عقد الهزيمة وقيود التبعية.
اغتالوه لأنه لم يكن مجرّد مقاتل، بل حامل مشروع. وها هو المشروع، بعد رحيله، لا يسقط بل يتجذّر. لأن الذين يزرعون في الأرض لا يموتون، بل تتحول أجسادهم إلى جذور لفكرٍ لا يُقتلع.
كاتب صحفي فلسطيني
بكالوريوس في الصحافة والإعلام
دكتوراه في الحقوق
[email protected]