مع اندلاع الحرب الصهيونية على الجمهورية الإسلامية الإيرانية في 13 يونيو/حزيران 2025، شهد المشهد الإعلامي الإسرائيلي تصاعدًا لافتًا في وتيرة الخطاب وتكثيفًا في حجم الرسائل الموجّهة، اتخذت طابعًا تعبويًا واستراتيجيًا يعكس حالة استنفار شاملة على المستويات السياسي والعسكري والمجتمعي. وقد شكّل هذا النشاط الإعلامي استجابةً ظرفية متوقعة للأحداث العسكرية كما تجري العادة، لكنه في الوقت ذاته مثّل جزءًا لا يتجزأ من منظومة إعلامية متكاملة تهدف إلى تشكيل وعي جماهيري مؤيد لخيارات القيادة، وتعزيز شرعية الحرب داخليًا، فضلًا عن بناء حالة من التعاطف الدولي تجاه الموقف الصهيوني.
وكما هو متوقع في الحروب ذات الأبعاد الاستراتيجية الكبرى، فعّل الكيان المؤقت منظومة سردية متعددة المستويات، بهدف تشكيل الإدراك الجماهيري لطبيعة الصراع، وتوجيه الرأي العام الدولي، وامتصاص التداعيات النفسية والأمنية على الجبهة الداخلية. وقد استند هذا البناء السردي إلى مجموعة من السرديات المحورية، لكل منها وظيفة واضحة ودور محوري في تعزيز الخطاب الأيديولوجي والسياسي الصهيوني.
أول هذه السرديات هي سردية "الضحية المهدَّدة"، التي تُصوِّر "إسرائيل" ككيان محاصر بسبب الأسلحة النووية التي يُحتمل أن تُنتجها إيران خلال أسابيع قليلة، ولكونه تعرّض لهجوم مفاجئ، ما يُبرر خيار الحرب باعتباره دفاعًا ضروريًا عن النفس.
تليها سردية "التفوق والردع"، التي تركز على إبراز جاهزية المؤسسة العسكرية وقدرتها على توجيه ضربات قاصمة، بما يعزز صورة "إسرائيل" كقوة لا يُمكن المساس بها، ويُظهر تفوقها في اغتيال القادة الإيرانيين والعلماء النوويين، وحتى إمكانية الوصول إلى السيد القائد علي الخامنئي.
أما سردية "الجبهة الموحدة"، فتهدف إلى تقديم صورة الداخل الإسرائيلي ككتلة متماسكة تتجاوز الانقسامات السياسية في مواجهة تهديد قومي مشترك، قادرة على التوحد والتعافي من الأضرار التي تسبب بها القصف، والصمود رغم استمرار الاستهداف.
في المقابل، تعمل سردية "إيران المعزولة والشريرة" على شيطنة العدو الإيراني وتجريده من الشرعية الدولية والأخلاقية، بما يخدم الجهود الإسرائيلية لعزله دبلوماسيًا، والتمهيد لاتخاذ إجراءات قانونية واقتصادية ضده، واتهامه بالإرهاب وممارسة الظلم ضد شعبه في محاولة لضرب شرعية النظام الإيراني.
كما طرحت سردية "الصراع الوجودي" لرفع من وتيرة المواجهة إلى مستوى معركة حياة أو موت، ما يمنح الحكومة تفويضًا واسعًا لإطالة أمد الحرب، واستخدام أدوات أكثر توسعًا، وتشجيع المستوطنين على تحمّل الأضرار والصمود في سبيل الحفاظ على وطنهم ووجودهم، الذي يُصوَّر بأن إيران تسعى إلى سلبه.
أخيرًا، كما المعتاد، قدّمت سردية "النصر وتحقيق الأهداف" والتي تلعب دورًا محوريًا، خصوصًا مع الدمار الكبير الذي سببه القصف الإيراني في مختلف مناطق فلسطين المحتلة، حيث تُبرز أن الحرب كانت مجدية، وأن الأهداف المعلنة – من تدمير البنية التحتية الصاروخية الإيرانية، وتفكيك البرنامج النووي أو تأخيره على الأقل، وصولًا إلى استعادة الردع وتعزيز الموقع الإقليمي لـ"إسرائيل" – قد تحققت أو باتت في طريقها إلى التحقيق، ما يُسهم في طمأنة الرأي العام الداخلي وتبرير الكلفة البشرية والمادية، فضلًا عن التأثير في التصورات الدولية لنتائج الحرب.
وفي هذه الورقة، المرفقة أدناه، تحليل هذه السرديات الست وفق منهجية تحليل الخطاب الإعلامي النقدي، وذلك من خلال التركيز على ثلاثة مستويات تحليلية لكل سردية: المضمون، والغاية، والتناقضات والانكشافات.
خلاصة نقدية:
عند تحليل السرديات الإعلامية الإسرائيلية في سياق الحرب مع إيران، تبيّن بوضوح أن الخطاب الصهيوني اعتمد بشكل مكثف على إعادة إنتاج نماذج سردية تقليدية ومألوفة تهدف إلى السيطرة على وعي الجمهور، داخليًا وخارجيًا، وتحقيق أهداف سياسية واستراتيجية عبر التحكم في تصورات الرأي العام. ورغم التنظيم الدعائي المحكم لهذه السرديات، فإنها اتسمت بهشاشة جوهرية نابعة من التناقض الصارخ بين خطابها وطبيعة الميدان، وبين طرحها البلاغي والواقع العملي الفعلي.
على سبيل المثال، سردية "الضحية المهددة" انهارت سريعًا بعدما تبين أن إسرائيل هي التي بادرت بالضربة الأولى على المنشآت الإيرانية، ما حول ادعاء الدفاع المشروع إلى غطاء لعدوان استباقي يرفضه القانون الدولي.
وبالمثل، فقد تعرضت سردية "التفوق والردع" لانكشاف مباشر نتيجة دقة ونطاق الرد الإيراني، الذي تمكن من اختراق العمق الإسرائيلي رغم التفوق التكنولوجي والاستخباراتي المزعوم لتل أبيب، مما أظهر محدودية قدرات الردع الإسرائيلية.
في الوقت ذاته، جاءت سردية "الجبهة الموحدة" محاولة يائسة لتجميل الواقع الداخلي الإسرائيلي، لكنها اصطدمت بأزمات ثقة معلنة بين القيادة السياسية والمؤسسة العسكرية، إضافة إلى الانقسامات الاجتماعية العميقة التي كشفت عنها مواقف الجمهور ومشاهد الملاجئ المكتظة وإنذارات القصف المتكررة.
أما سردية "إيران المعزولة والشريرة"، فبدت استمرارًا لبروباغندا كلاسيكية أصبحت غير مقنعة أمام جمهور دولي متزايد التشكك في الرواية الغربية الأحادية.
في المقابل، غذّت سردية "الصراع الوجودي" الانقسام الديني والثقافي داخل المجتمع الإسرائيلي، ولم تستطع منافسة الخطاب العالمي المناصر لغزة ضد الإجرام الصهيوني.
وأخيرًا، بدت سردية "تحقيق الأهداف والنصر" منفصلة تمامًا عن واقع الميدان، وأقرب إلى وهم بلاغي ضروري لاحتواء الصدمة النفسية والمجتمعية أكثر من كونها تعبيرًا عن انتصار فعلي.
لتحميل الدراسة من هنا