أثارت نتائج انتخابات الكنيست الخامسة والعشرين التي أجريت في الأول من نوفمبر 2022 العديد من التساؤلات حول انعكاساتها على المشهد السياسي الإسرائيلي والقضية الفلسطينية، وطرحت تساؤلاً كبيراً حول "مفترق الطرق" الذي وقفت فيه إسرائيل مع وصول الحكومة الأكثر تطرفاً في تاريخها إلى السلطة في ديسمبر 2022.
تساؤلات لم تطرح في الداخل الإسرائيلي أو من قبل الفلسطينيين فقط، ولكن من جانب العديد من الدول الغربية بما فيها الولايات المتحدة الأمريكية. وتركز الجدل الداخلي والغربي بصفة أساسية على انعكاسات تلك النتائج على الديمقراطية الإسرائيلية التي مثلت أحد ساحات المواجهة المبكرة مع إعلان خطة التعديلات القضائية في يناير 2023. بالإضافة إلى ما ارتبط بتلك المقترحات، وغيرها من نقاط خلاف وجدل بين القوى المنتخبة في الائتلاف والقوى غير المنتخبة ممثلة بشكل خاص في القضاء وتحديداً الدور الرقابي للمحكمة الدستورية العليا، ما أدى إلى انقسام التعامل مع تلك التعديلات بين الائتلاف الذي تعامل معها بوصفها إصلاحات قضائية والمعارضة التي وصفتها بأنها انقلاب على الديمقراطية.
لم تتوقف التحديات التي طرحها تشكيل الحكومة الأكثر تطرفاً على قضية الديمقراطية الإسرائيلية بشكلها المباشر فقط ولكنها طرحت العديد من القضايا الأخرى في ظل الاحتجاجات المتزايدة في الداخل، والتي شاركت فيها العديد من القوى الإسرائيلية بما فيها أفراد من الجيش الإسرائيلي ما طرح تساؤلات أكثر عمقاً عن تأثير التطورات السياسية على "جيش الشعب"، والتماسك في مواجهة التحديات المتزايدة في الإقليم، والقدرة على دخول حرب على جبهات متعددة، وتآكل الردع وانعكاساته المحتملة.
بدورها، ساهمت عملية "طوفان الأقصى" وحرب غزة الخامسة (أكتوبر 2023) في استحضار التحديات التي شهدتها إسرائيل خلال العام الأول من حكومة رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو إلى الواجهة، ومعها خطاب وسياسات أكثر تطرفاً في مواجهة فكرة الديمقراطية والقضية الفلسطينية. ومرت إسرائيل في الفترة التالية لطوفان الأقصى بمراحل مختلفة من التماسك والصراع، والاتفاق والخلاف، والحديث عن الوحدة والتفرق، والقوة العسكرية في مواجهة خطاب تآكل الردع، والجيش "الأخلاقي" في مواجهة انتهاكات القانون الدولي وحقوق الإنسان وارتكاب جرائم تصل إلى حد الإبادة الجماعية.
وسط تلك التناقضات التي شهدتها إسرائيل، تأتي اللحظة الحالية بوصفها لحظة أخرى فارقة بين وقف الحرب في غزة عبر صفقة تبادل واتفاق لوقف النار والبقاء في ساحة الحرب المفتوحة، وبين العودة إلى مسار سياسي على صعيد القضية الفلسطينية والالتزام بمسار يؤيده اليمين المتطرف والأكثر تطرفاً وخاصة على صعيد تصفية القضية وتطبيق حلم قديم يتعلق بالتهجير أو "الترانسفير" بكل ما يطرحه من مخاوف ورفض من مصر وغيرها من الأطراف المعنية بما في ذلك الطرف الفلسطيني صاحب الأرض والقضية.
تناقضات ظهرت في صور متعددة خلال الحرب وخاصة في الصراع بين الحكومة والائتلاف الحاكم من جانب وقوى الاحتجاج خاصة عائلات الأسرى والرهائن من جانب آخر، كما حدث مع إعلان وزير الدفاع يسرائيل كاتس عن العودة إلى التصعيد في قطاع غزة وإنهاء وقف إطلاق النار الذي استمر منذ 19 يناير 2025 وحتى في 18 مارس 2025 حين بدأت الحرب في صورتها الثانية، الأكثر عنفا وتدميرا، وخاصة في ظل المعاناة التي عاشها القطاع على مدار أكثر من عام من الحرب. تناقض عبرت عنه عائلات الأسرى والرهائن التي اعتبرت التصعيد الجديد، أو حرب غزة الخامسة في نسختها الثانية، بمثابة "تخلٍ عن الأسرى"، قبل أن تتساءل إن كان قرار التصعيد يعني التضحية بالرهائن من أجل تحقيق مكاسب إقليمية.
تتزامن تلك التطورات مع ضغوط سياسية داخلية تطرح العديد من الجدل حول المشهد السياسي الإسرائيلي في ظل استمرار جلسات محاكمة نتنياهو بتهم الفساد وخيانة الأمانة، والتي وصلت ما بين ديسمبر 2024 والثاني من أبريل 2025 إلى 21 جلسة. بالإضافة إلى حركة الرفض المتزايدة للحرب بين جنود الاحتياط، مع عودة الاحتجاجات الرافضة للتعديلات القضائية في نسختها المعدلة ممثلة في التحركات التي تقف ضد محاولات نتنياهو التخلص من عدد من الشخصيات المؤثرة في المشهد، سواء على المستوى الأمني مثل رئيس جهاز الأمن الداخلي "الشاباك" رونين بار، أو على المستوى القضائي مثل المستشارة القضائية للحكومة غالي بهاراف ميارا، مع تغيير عدد من الأسماء الأخرى في هيئة الأركان وغيرها من المناصب، ما أعاد إلى الواجهة فكرة غلبة المصالح السياسية للحكومة، ونتنياهو شخصياً، على المصالح الوطنية وحتى الأمنية لدولة إسرائيل ومواطنيها.
وما بين تلك التحديات المختلفة تقوم الحكومة الإسرائيلية الأكثر تطرفاً بالعديد من التغييرات على الأرض، تغييرات لا تتوقف عند حرب غزة الخامسة بكل ما تشهده من انتهاكات للقانون الدولي، وتغيير جغرافية القطاع عبر الهدم والسيطرة، ولكنها تمتد إلى الضفة الغربية، كما يظهر في عدد الأسرى الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية، وخطط الاستيطان، وخطة الحسم التي طرحها وزير المالية وزعيم حزب الصهيونية الدينية اليميني المتطرف بتسلئيل سموتريتش. أوضاع تطرح بدورها سجالات مختلفة في الداخل الإسرائيلي سواء على صعيد الصهيونية وخاصة في صورتها الحالية ممثلة في الصهيونية الدينية وعلاقتها بالصهيونية المسيحية في الولايات المتحدة الأمريكية، وكذلك الإسرائيلية وما تطرحه من قضايا على صعيد الدولة وسؤال الوجود والاستمرار في الإقليم.
في ظل تلك النقاط المختلفة، يتناول هذا الملف مجموعة من القضايا المهمة في المشهد الإسرائيلي الراهن بداية من تعقيدات المشهد المأزوم بين الكاهانية وخطة الحسم كما تبرزها نتائج الانتخابات والوقائع على الأرض، إلى المشروع الإسرائيلي وما يشهده من جدل حول النجاحات والإخفاقات وسؤال وجود الدولة، والنقلة الثالثة في العلاقات الأمريكية-الإسرائيلية على ضوء تطور الصهيونية الدينية في إسرائيل والصهيونية المسيحية في الولايات المتحدة، بالإضافة إلى تطور المشروع الاستيطاني في الضفة الغربية، وبعض الأرقام الكاشفة عن المشهد الإسرائيلي في ظل حرب غزة الخامسة.
لتحميل الدراسة من هنا
المصدر: مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية