في مشهد غير مألوف ضمن ديناميكيات الفلسطيني-"الإسرائيلي"، أشاد الرئيس الأميركي دونالد ترامب بإعلان حركة المقاومة الإسلامية (حماس) نيتها الإفراج عن الأسير الأميركي "الإسرائيلي" عيدان ألكسندر، واصفًا الخطوة بأنها "بادرة حسن نية"، معربًا عن أمله في أن تكون هذه بداية النهاية لـ"النزاع الوحشي" في غزة. الإعلان المفاجئ من حماس، والتجاوب الأميركي السريع، يكشف عن تغيرات في النبرة السياسية، وعن براغماتية قديمة جديدة تعود بقوة إلى قلب المشهد الإقليمي.
تحول في النمط الأميركي: ترامب وصفقة غزة
تتجاوز تصريحات ترامب مجرد المجاملة الدبلوماسية. فهي تعكس نهجًا أوسع كان قد تبناه خلال ولايته، يقوم على التعامل المباشر مع جهات فاعلة غير حكومية، وتجاوز الأعراف التقليدية التي كانت تقيد التواصل مع أطراف مثل حماس. هذا النهج، وإن بدا أنه يهدف إلى حل الأزمات، إلا أنه يعيد تشكيل خريطة التحالفات، ويمنح أدوارًا جديدة لقوى لم تكن تعتبر شريكة شرعية في الماضي.
منطق الصفقات ومبدأ "أميركا أولًا"
يؤسس ترامب سياسته على منطق الصفقات، بعيدًا عن الإيديولوجيا، مفضلًا إنجازات ملموسة يمكن عرضها على الداخل الأميركي كدليل على نجاحه. تحت هذه الرؤية، تُهمّش الاعتبارات التاريخية والحقوقية، لتحل مكانها البراغماتية المحضة. ويبدو أن ترامب لا يمانع التفاوض حتى مع خصوم واشنطن التقليديين إذا ما أفضى ذلك إلى "اتفاق مفيد" لأميركا. الإفراج عن رهينة أميركية قد يكون، بالنسبة له، صفقة رابحة بامتياز.
التحولات الإقليمية: صفقات تتجاوز الحلفاء
بالتوازي مع هذا المنطق، تشهد المنطقة العربية إعادة اصطفاف متسارعة. دول الخليج، رغم عدائها المعلن لإيران، منفتحة على الحوار معها. وتركيا، التي لا تزال جزءًا من حلف الناتو، تتبنى سياسات مستقلة بشكل متزايد، وتقيم علاقات متشابكة مع كل من إسرائيل وروسيا. وفي هذا المشهد، تجد "إسرائيل" نفسها "عالقة في تصورات قديمة"، كما وصفناها سابقًا، غير قادرة على التكيف الكامل مع السياسة الأميركية الجديدة، التي لم تعد تمنحها ذات الغطاء المطلق كما في السابق.
حرية تصرف "لإسرائيل"… لكن بثمن
أطلقت إدارة ترامب يد "إسرائيل" في غزة والضفة الغربية، بل ورفعت الغطاء عن الضغوط الدولية التي كانت تُمارس على الاستيطان. غير أن هذا التمكين لم يكن مجانيًا. فعندما توقفت المفاوضات بسبب رفض نتنياهو تنفيذ المرحلة الثانية من اتفاق وقف إطلاق النار، لم يتدخل ترامب لحسم الخلاف لصالح إسرائيل. بدا الأمر كما لو أن نتنياهو لم يعد "على رأس حاملة الطائرات الأميركية" كما كان يظن.
الشرق الأوسط في ظل "الاعتراف والمكانة"
في ظل التراجع النسبي للنفوذ الأميركي وصعود قوى دولية منافسة كالصين وروسيا، تسعى القوى الإقليمية في الشرق الأوسط إلى تثبيت مكانتها كأقطاب محلية فاعلة. وهنا، لا تقتصر المنافسة على امتلاك القوة الصلبة، بل تتعداها إلى الصراع من أجل الاعتراف الدولي والإقليمي كمركز قرار في قضايا كبرى مثل سوريا، اليمن، والقضية الفلسطينية. ضمن هذه البيئة، يتحرك ترامب كمفاوض قادر على تمييع الخطوط الحمراء، وتحويل الأعداء إلى شركاء محتملين.
أزمة التحالفات التقليدية: الضغوط على الشركاء
نهج ترامب يضع الحلفاء التقليديين تحت المجهر. المساعدات الأميركية لم تعد ضمانة للعلاقات، بل أداة للابتزاز السياسي. مصر والأردن، على سبيل المثال، تواجهان تحديًا وجوديًا في ظل مقترحات "إعادة توطين" الفلسطينيين. ومع اتساع فجوة الثقة، تتجه دول عربية نحو بناء تكتلات بديلة، مستفيدة من علاقاتها بالصين وروسيا.
أدوار جديدة لجهات غير حكومية: من حماس إلى اليمن
أظهرت إدارة ترامب استعدادًا مقلقًا – بنظر بعض حلفائه – للتعامل مع أطراف مصنفة "إرهابية" كحماس والقوات المسلحة اليمنية، ما دامت هذه الصفقات تخدم مصالح أميركا أولًا. وقد أثبتت تجربته مع القوات المسلحة اليمنية، حين أعاد تصنيفهم كمنظمة إرهابية بعد صفقة إطلاق رهائن، أن التصنيفات قد تُستخدم كورقة ضغط تفاوضية أكثر منها موقفًا مبدئيًا.
تركيا، الأكراد، وسوريا: تشبيك المصالح بدل الصدام
في الملف السوري، يتجلى التغيير في السياسات الأميركية بشكل صارخ. انسحاب ترامب من شمال شرق سوريا مثّل استجابة مباشرة للمطالب التركية. وفي الوقت نفسه، احتجت "إسرائيل" على هذا الانسحاب ليس دفاعًا عن الأكراد بل خشية من تصاعد النفوذ التركي. وتتصاعد التكهنات حول مشروع محتمل يجمع بين الأكراد ودمشق برعاية تركية، ما قد يحوّل أنقرة إلى شريك أمني بديل لواشنطن في سوريا.
إيران: العصا والجزرة
مع إيران، يتبنى ترامب سياسة "التهديد المقنع"، إذ لا يستبعد العمل العسكري لتدمير البنية النووية، لكنه يطرح بالمقابل حوافز اقتصادية واستثمارية. إن إدارته تعي أن الضغط وحده لن يُجدي، وأن التفاوض قد يُثمر نتائج أسرع من العقوبات وحدها، لكن على طهران أن تختار بين "الصفقة أو الضربة".
مخاطر النهج الترامبي: تقويض التحالفات وتمكين الخصوم
إن إعادة تعريف التحالفات من منظور "من يدفع أكثر" أثارت قلق شركاء واشنطن حول العالم، لا سيما في أوروبا وشرق آسيا. وفي الشرق الأوسط، يشعر الحلفاء بالخذلان والارتباك، بينما توسّع قوى كروسيا والصين نفوذها في مناطق الفراغ. وقد تدفع سياسات ترامب غير المتوقعة مزيدًا من الدول نحو البحث عن مظلات بديلة.
وصفة للاستقرار أم مشروع للفوضى؟
بينما يرى أنصار ترامب أن نهجه يضع أميركا في موقع تفاوضي قوي يمكن أن يفضي إلى سلام عبر القوة والواقعية، يرى خصومه أن هذا النهج يزرع الفوضى ويزعزع التحالفات، ويغذي الحروب بالمنطقة بدلًا من إطفائها. وما بين الطموح الأميركي لإعادة فرض الهيمنة، والطموح الإقليمي للتمركز والاعتراف، تبقى الساحة مفتوحة على كل الاحتمالات.
لكن يبقى السؤال الجوهري: هل يشكّل الإفراج المرتقب عن الأسير الأميركي بوابة فعلية لإنهاء الحرب في غزة، أم أنه مجرد تكتيك تفاوضي في لعبة عضّ الأصابع، تُوظّفه واشنطن و"إسرائيل" على السواء لكسب الوقت وتعزيز الموقع قبل جولة الحسم؟
كاتب صحفي فلسطيني
بكالوريوس في الصحافة والإعلام
دكتوراه في الحقوق
[email protected]